لا تشير التوازنات السياسية والنيابية القائمة في لبنان إلى قدرة الأفرقاء على الالتقاء، لإنهاء الأزمة السياسية والرئاسية القائمة. على مدى 12 جلسة انتخابية، وفي ظل كل الانقسام القائم، وصولاً إلى مقاطعة كتل نيابية وازنة لعمل المجلس النيابي، في ظل الشغور الرئاسي.. كل ذلك يشير إلى حالة استعصاء داخلية مديدة، لا يمكنها أن تقود إلى أي متغيرات من دون حصول تدخل خارجي مباشر، قادر على تغيير التموضعات وإنتاج أي صيغة حلّ أو تسوية.
مخاطر كبيرة
أصبحت اللعبة في يد الخارج، والذي إذا تلاقى جدياً على أي حلّ، فإن ذلك يفترض أن يدفع ببعض الكتل أو النواب إلى تغيير مواقعهم السياسية، فينتج الرئيس. بمعنى أوضح: في حال وصلت القوى الخارجية إلى اتفاق على انتاج تسوية تقود سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، يمكن أن يؤثر ذلك على “كتلتي اللقاء الديمقراطي” و”الاعتدال”. وبذلك يرتفع رقم فرنجية إلى 65 صوتاً. وبحال اتفقت القوى الخارجية على جهاد أزعور يمكن أن يميل جزء من كتلة الإعتدال للتصويت له، بالإضافة إلى بعض النواب المستقلين، فيحصل على 65 صوتاً.
ولكن في كلا الحالتين، سينجم عن ذلك مخاطر كبيرة، نظراً لمقاطعة المسيحيين للمرشح الأول ورفضهم له، ومقاطعة الثنائي الشيعي للمرشح الثاني ورفضهم له. فيما يبقى الاستثناء هو قدرة هذه الدول على رعاية تسوية كبرى ترضي الكتل المختلفة على أحدهما. دون ذلك، فإن المخاطر ستكون كبرى وستطال الكيان ووحدته.
في المقابل، هناك خيار ثالث يبقى قائماً، وهو أن تنجح القوى الخارجية في دفع الطرفين إلى التخلي عن مرشحيهما والذهاب إلى مرشح تسوية يحصد أكثر من 86 صوتاً. ولكن هذا سيكون بحاجة إلى رعاية إقليمية ودولية تفصيلية لكل مساراته، ووفق آليات الوصول إلى سلّة شاملة ومتكاملة.
“ظهر المقاومة” والتصعيد
قبل الوصول إلى كل هذه السيناريوهات، لا بد من المرور بجملة مؤشرات خطرة. أولها تنامي وجهة النظر التي تردد بأن هناك حاجة لإعادة النظر بالصيغة والتركيبة ككل. بالإضافة إلى وجهة نظر أخرى تشير إلى ضرورة إدخال تعديل على صيغة النظام أو على الدستور. وهذا عادة لا يحصل إلا بعد مكاسرة تشهدها البلاد. بينما الالتفاف عليها غالباً ما يكون بإيجاد صيغ تسووية مرحلية. وهو ما يراهن عليه البعض، إنطلاقاً من مسار التسويات الإقليمية والدولية القائمة، وبأنها ستنعكس على الساحة الداخلية لاحقاً. وهذا لا بد من ترقب احتمالاته بعد اللقاء الفرنسي السعودي، والسعودي الإيراني.
دون ذلك، تبقى ثابتة أساسية، وهي أن توازنات المجلس النيابي والانقسامات القائمة فيه لا تفسح في المجال أمام خيار الذهاب إلى تسوية داخلية بناء على التقاء الأفرقاء المتناقضين، نظراً لأن كل طرف يعارض مرشح الطرف الآخر، انطلاقاً من الدفاع عن النفس أو عن الوجود وفي سبيل الحصول على ضمانات لا يوفرها إلا المرشح الذي يتبناه كل طرف. وهذه ثابتة بالنسبة إلى حزب الله، الذي يقول إنه يتمسك بمرشحه الذي لا يطعن المقاومة في الظهر، فيما ذهب بالتصعيد إلى وصف المرشح الآخر بأنه “مرشح تل أبيب”!
هي مقدمة تصعيدية لها ما يكمّلها ضمن الصورة العامة في البلاد، خصوصاً أن هذا الموقف أطلق من منطقة جبيل برمزيتها، والتي شهدت ثلاث زيارات متتالية لمسؤولين في حزب الله، وأطلقت منها مواقف تصعيدية.
المؤشرات الأبعد لرمزية المكان تستهدف وفق منطق حزب الله كل من يدعو إلى ما هو أبعد من اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، وكأنه يقول إنه وجود وحاضر بين ظهرانيهم.
طيف 7 أيار
ما يضفي جواً من التصعيد، هو المقاربة التي قدمها رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، الذي اعتبر أن أرقام الجلسة الثانية عشرة لانتخاب الرئيس صدمت خصوم سليمان فرنجية، ونجا فيها لبنان من أزمة كبرى. حسب المعلومات، فإن الأزمة الكبرى التي أشار إليها برّي، هي رهان القوى الداعمة لجهاد أزعور على تحصيل 65 صوتاً أو أكثر في الدورة الأولى، فيلتفون على تعطيل النصاب، ويبقون داخل المجلس للمطالبة بعقد الدورة الثانية. وفي حال لم يتحقق ذلك كانوا سيتعاطون مع أزعور كرئيس. وهو ما سيرفضه الثنائي وحلفاؤه، ما كان يفترض أن يدخل البلد في تلك الأزمة الكبرى التي قصدها برّي. وبالتأكيد، ستكون تداعياته أخطر مما هو متوقع. وربما ذلك هو الذي دفع بصورة مشهد أحداث 7 أيار 2008 إلى الواجهة، سواء من قبل الذين لوحوا بها ووجهوا تهديدات، أو من قبل الطرف الذي تلقى التهديد وأبدى خشية من ذلك، ومما لا شك فيه أن مفاعيل 7 أيار كان لها تأثير وازن على آلية تصويت العديد من النواب.
كل هذه الوقائع تشير إلى حالة الانقسام العمودي في البلاد، وإلى انعدام قدرة الداخل على اجتراح الحلول. لا سيما أن الرهان على لعبة الوقت لفرض أي من الطرفين مرشحه، سيتعاطى الطرف الآخر معها بسلبية. وفي حال نجح حزب الله بفرض فرنجية، فإن رد الفعل لدى القوى المسيحية سيكون عنيفاً، وسيرتفع بموجبها الكثير من الدعوات للانفصال والطلاق، على قاعدة إعادة النظر بالتركيبة، ورفض منطق الفرض الذي يمارسه الحزب.
بحال تم الاستناد على كل المقومات الداخلية، فإن الأزمة ستكون طويلة أكثر مما يتوقع كثيرون، لحدود الإقتناع بأن هذا المجلس لن يكون قادراً على انتخاب الرئيس. وبالتالي، فإن الفراغ سيستمر إلى ما بعد انتهاء ولايته.
لذا، بدأت تبرز دعوات في المقابل للذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة، مثلما صرّح النائب الياس بوصعب بعد لقائه الرئيس برّي: “تمنيت على برّي أن نبدأ بالتفكير بانتخابات نيابية مبكرة”. وهو أمر مرفوض حتى الآن، وخصوصاً من قبل الثنائي الشيعي. لا سيما أن المطالبة بالانتخابات المبكرة قد تفتح الباب أمام المطالبات بتعديلات دستورية أو تعديلات تطال جوهر النظام.