في أعقاب جلسة انتخاب الرئيس الأخيرة والهرج والمرج اللذين سادا فيها وادّعاء كلّ فريق الانتصار على الفريق الآخر كان النائب في كتلة “الوفاء للمقاومة” النائب حسين الحاج حسن أوّل الخارجين من الجلسة والداعين إلى الحوار وهو يردّد ثلاثية “الحوار والتلاقي والتفاهم”. وما إن وصل إلى مقرّ الرئاسة الثانية في عين التينة أصدر رئيس مجلس النواب نبيه برّي بياناً ضمّنه دعوة إلى الحوار، لكن ليس على حساب مرشّح الثنائي، وجاء فيه أنّ “انتخاب رئيس للجمهورية لن يتحقّق إلّا بالتوافق وبسلوك طريق الحوار… ثمّ الحوار… ثمّ الحوار، ومن دون شروط مسبقة، ولا يلغي حقّ أحدٍ بالترشّح”.
شروط متبادلة للحوار
الثنائيّ غير مستعدّ للدعوة إلى حوار أو تلبية الدعوة إليه إذا ما كانتا تحت سقف سحب مرشّحه الرئاسي سليمان فرنجية، وهو ما سيكون عقبة أساسية أمام عقد طاولة حوار، لأنّ الأطراف المعارضة وضمنها التيار الوطني الحر لن تقبل دخول أيّ حوار يُدرج فيه اسم فرنجية في سياق الأسماء المطلوب مناقشة ترشيحها.
اعتبر الثنائي أنّ خصمه في موقع الضعف، وأنّه هو المنتصر الذي خرج من الجلسة فارداً يديه للحوار معه، لكن ليس قبل أن ينسحب أزعور
كلّما أُقفلت سبل الحلّ في وجهه صاح الثنائي: حيّ على الحوار، إذ بات الباب المعتاد المخصّص للهرب من كبرى المشاكل، وتأتي الدعوة الشهيرة إلى حوار على قاعدة “قُلْ ما تريد ونحن نفعل ما نشاء”، فتكون النتيجة بالدليل القاطع الموثّق بالتجارب فشل الحوارات على تعدّدها، سواء كان شكل الطاولة التي يجلس إليها المتحاورون دائرياً أو مستطيلاً أو بيضاوياً.
من دون الاستعانة بمحرّك غوغل للاستدلال يمكن الجزم أنّ كلمة حوار هي الأكثر استخداماً في لبنان منذ ثمانية أشهر حتى اليوم. فالحوار هو المحطّة التي يتمّ الهرب إليها للنقاش في الزمن الفاصل بين حدثين مهمّين أو أكثر.
بعد الجلسة النيابية اعتبر الثنائي الشيعي أنّ نتيجة 51 صوتاً التي خرج بها مرشّحه فرنجية مقابل ما ناله خصمه جهاد أزعور تخوّله التمسّك بقراره ورفض الانجرار إلى سحب فرنجية أو النقاش في ترشيح بديل عنه، ولو أنّ مرشّح المعارضة تقدّم عليه بثمانية أصوات، فالثنائي يحاسب المعارضة هنا على النوايا وليس على الوقائع. توقّع المعارضون أن يحصل مرشّحهم على ما يزيد على ستّين صوتاً، فإذا بالتصويت له يقف عند عتبة الستّين ولا يبلغها، وهو ما فسّره الخصوم بأنّه خسارة مدوّية توجب انسحاب أزعور من المنافسة.
هل هُزمت المعارضة؟
اعتبر الثنائي أنّ خصمه في موقع الضعف، وأنّه هو المنتصر الذي خرج من الجلسة فارداً يديه للحوار معه، لكن ليس قبل أن ينسحب أزعور. بالمقابل رفضت المعارضة حواراً يتعلّق بمرشّح يفرضه الثنائي، وقالت إنّ برّي شريك الحزب في الثنائية بات طرفاً ولم يعد محايداً ولا مؤهّلاً لإدارة حوار بين خصمين سياسيَّين.
يأتي ضمن العقبات تأكيدُ الطرفين أنّ الظرف غير ملائم للحوار بعد ولا استعداد لإجرائه، سواء محلياً أو خارجياً، وخاصة أنّ الدعوة إلى طاولة الحوار غير محدّدة المعالم إن من حيث الشكل المتعلّق بالمدعوّين أو المضمون، أي البرنامج والعناوين الأساسية.
من ناحية الحزب، لم تنضج ظروف الحوار بعد وإن كان ضرورة لا بدّ منها، لكن ليس ثمّة اتجاه لبلورته حتى الآن، وذلك أنّ الجميع في مرحلة انتظار هضم التطوّرات التي حصلت بعد جلسة الانتخاب لكي يستوعب كلّ طرف ما شهدته الجلسة الأخيرة والتأسيس عليها للمستقبل. تضيف مصادر الحزب أنّ الدعوة مرهونة أيضاً بانتظار نتائج زيارة وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان لفرنسا ولقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وما ستشهده زيارة الموفد الفرنسي لودريان للبنان التي أرجئت. لا بدّ من ترقّب مسار معطيَين جوهريَّين، وإلى أن تتوضّح الرؤية يلتقط الكلّ أنفاسه في انتظار ما ستقدّمه باريس من معطيات جديدة يُبنى عليها قبل الحوار. يقول مصدر نيابي في الثنائي: “تبقى الدعوة إلى الحوار مطلباً يتمسّك به الثنائي، لكن لن يضعه على نار حامية بانتظار تبلور معطيات جديدة”.
من جهتها، تسأل مصادر المعارضة عن صفة الداعي إلى الحوار وبرنامج العمل، وهل يقتصرعلى مناقشة الملفّ الرئاسي أم يتطرّق إلى مشاكل لبنان بالجملة.
يخشى فريق المعارضة أن يجرّه الثنائي إلى حوار طويل يصل إلى طرح النقاش علانية في شأن المؤتمر التأسيسي. يرفض الفريق السنّيّ الفكرة ويتجنّب كلّياً الانخراط فيها، فيما ينقسم المسيحيون وعين فريق منهم على الفدرالية والتقسيم. إذاً نتحدّث هنا عن غايتين للحوار بين فريقين، فأحدهما يطلبه قاصداً البحث في صيغة النظام، والثاني يسعى إلى الفدرالية.
على حدّ مصادر سياسية ملمّة بالدستور فإنّ عقد طاولة حوار على الطريقة التقليدية فقد قيمته لأنّ الحوار المطلوب هو الحوار الجدّي حول النظام اللبناني وتطبيق الدستور، وإلّا فلا جدوى منه تحت أيّ عنوان عُقد
الرعاية الدوليّة المطلوبة
ما دامت الجهة الداخلية المؤهّلة لإدارة الحوار غائبة فإنّ مثل هذه الدعوة لا بدّ أن تأتي برعاية دولة ما طبقاً للتجارب السابقة. من غير المعروف بعد من سيدعو إلى الحوار اليوم: هل هي فرنسا أم أميركا أم قطر أم السعودية أم البطريرك الراعي أم رئيس مجلس النواب نبيه برّي الذي بات طرفاً سيرفض الفرقاء الآخرون رئاسته طاولة الحوار. هذه الحقيقة يعترف بها رئيس المجلس ويقول للمستفسرين إنّه لن يقدم على دعوة إلى الحوار، وإنّ على بكركي أن تتولّى المهمّة، غير أنّ الصرح البطريركي لا يبدو بهذا الوارد حالياً.
رأت مصادر أخرى من غير هذين الطرفين أنّ طرح فكرة الحوار “مجرّد تضييع وقت”، بحيث يتقدّم برّي بالفكرة فتأخذ مداها في النقاش كما هو حاصل اليوم، ويكون الهدف من الحوار الانتظار من أجل تبيُّن حقيقة المشهد الإقليمي وكيف سينجلي. نتحدّث هنا عن معالم الاتفاق الإيراني الأميركي الذي بات قاب قوسين أو أدنى والذي بسببه ينشد الأميركي التهدئة قبيل الانتخابات الأميركية ويسعى إلى التهدئة في ملفّات عديدة، وقد بدأ إعلان النوايا بإطلاق السجناء ثمّ بالإفراج عن جزء من المساعدات المالية لإيران. ألزمت هذه التطوّرات الجانب الإسرائيلي بالتهدئة لمراقبة ما ستؤول إليه الأوضاع في المنطقة، وحبس الإيراني أنفاسه، بينما انطلق السعودي في تنفيذ مخطّط انفتاحه العربي وأدار محرّكاته باتجاه لبنان ولو ببطء.
تشكّل فكرة أخرى مصدر قلق للمعارضة، وهي أنّ الثنائي لم يحدّد موضوع الحوار، فهل يتّصل بمرشّح جديد أم ضمانات أم عناوين أساسية في السياسة يتمّ اختيار الرئيس على أساسها أم مستقبل النظام؟
بالتجارب وبشهادة شهود لم تلقَ أيّ دعوة إلى الحوار النجاح في لبنان. بعد الطائف بوشرت دعوات الحوار على أعتاب الخلاف بين 8 و14 آذار عام 2005. وفي عام 2006 استضاف برّي حواراً في ساحة النجمة، ثمّ في عام 2007 وقبل اتفاق الدوحة أدار الرئيس ميشال سليمان حواراً حول الاستراتيجية الدفاعية انتهى بنصيحة نائب الحزب محمد رعد لمعدّيه بأن “انقعوه واشربو ميتو”. وفي عهد عون عُقدت جلسة حوار حول أمور عامّة، وأخرى حول أمور اقتصادية. لكنّ كلّها لم تصل إلى الغاية المرجوّة ولم تجترح الحلول وإن خرجت بتوصيات بقيت حبراً على ورق.
قبل الطائف عُقد أوّل مؤتمر للحوار في عام 1975 في السراي، ثمّ كانت حوارات لوزان وجنيف العقيمة. بعدئذٍ كانت محطة الطائف التي لم تكن لجنة حوار، بل عبارة عن اتفاق فرضه المجتمع الدولي والعرب على لبنان. وبعد الطائف عُقد مؤتمر سان كلو الذي لم يوصل إلى أيّ مكان، ثمّ الدوحة على أثر السابع من أيار.
غالباً ما كان برّي سبّاقاً إلى الدعوة للحوار وإدارته. وهو الذي دعا إلى جلسة حوار قبيل انتخاب عون رفضها الأخير لاعتباره أنّ الهدف هو فتح بازار حول ترشيحه.
إذا كان الجميع لم يلاقِه إلى منتصف الدرب وقابلوا دعوته بالرفض والتشكيك، فإنّ رئيس الحزب الاشتراكي كان من المسارعين إلى الدعوة للحوار رافعاً الراية البيضاء لحليفه الرئيس برّي على أثر الخلاف بينهما حول انتخاب أزعور.
على حدّ مصادر سياسية ملمّة بالدستور فإنّ عقد طاولة حوار على الطريقة التقليدية فقد قيمته لأنّ الحوار المطلوب هو الحوار الجدّي حول النظام اللبناني وتطبيق الدستور، وإلّا فلا جدوى منه تحت أيّ عنوان عُقد. وفي ظلّ انعدام الثقة بين المكوّنات السياسية سيكون الحوار بينها صراخاً في الهواء، وقد تكون تداعياته خطيرة إن انتهى إلى اشتباكات في المواقف السياسية ربّما تنعكس على الشارع فتزيد الأزمة الداخلية تعقيداً. لكنّ الخوف أن تكون متوافرةً أسبابُ جلوس الجميع على صفيح ساخن، سواء في الداخل أو على الحدود، وحينها يفرض المرشّح نفسه ويأتي أمر اليوم الإقليمي والدولي. ومهما حاول المنادي، فالواقع ينطبق عليه قول فيروز: الرعيان في وادٍ والقطعان في واد.