منذ نحو ثلاث سنوات ونحن نسمع أنّ لبنان يتفاوض مع صندوق النقد الدولي. على مدى الفترة المذكورة عُقدت اجتماعات عدّة بين فريق التفاوض اللبناني ووفد الصندوق. في العام الماضي قيل إنّ الحكومة اللبنانية وقّعت اتفاقًا مبدئيًا مع الصندوق، وقبل يومين أعاد رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي التذكير أنّ الحكومة أنجزت المشاريع الإصلاحية المطلوبة ووقّعت الاتفاق الأوليّ مع الصندوق.
إلا أنّ المفارقة أنّه ورغم كل هذا الضجيج لم تتقدّم الأزمة اللبنانية نحو الحل قيد أنملة. لا بل على العكس تواصل الأوضاع الاقتصادية والمالية مسارها الانحداري. ورغم ذلك، يُصوّر البعض أمر التفاوض مع هذا الصندوق على أنّه السبيل الوحيد لانتشال لبنان من أزمته. منذ سنوات ونحن نسمع لازمة تُردّد دائمًا مفادها أن “لا مخرج لأزمة لبنان إلا بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي”، الأمر الذي قالته صراحة أميركا على لسان مساعدة وزيرة خارجيتها لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف التي ادّعت أن لا بديل أمام لبنان للتعافي الاقتصادي سوى بإحراز اتفاق مع الصندوق المذكور.
لكنّ المخرج المنتظر لا يزال مقفلًا بذرائع شتّى، أولاها عدم بدء لبنان بتنفيذ الاصلاحات المطلوبة. طبعًا لا غبار على أنّ ثمّة إصلاحات ضرورية للبنان ومن واجبه تنفيذها دون انتظار طلبات الخارج، لكنّ التعويل فقط على تلك الاصلاحات لإخراج البلد من أزمته دونه عقبات خاصة أنّ ثمّة مشاريع إصلاحية تحتاج الى إقرارها والمصادقة عليها في مجلس النواب، والأخير يتعذّر التآمه بشكل دوري لأسباب عدّة، فهل يبقى لبنان عند قارعة الانتظار حتى تتدهور الأوضاع أكثر، أم يؤمِن أنّ صندوق النقد ليس قدرًا ويفتّش عن بدائل أخرى؟!.
عكوش: التفاض مكانك راوح
الخبير الاقتصادي الدكتور عماد عكوش يشدّد في حديث لموقع “العهد” الإخباري على أنّ عملية التفاوض بين لبنان وصندوق النقد لا تزال في مكانها منذ أكثر من عامين. الاجتماعات التي عُقدت مع الصندوق لم تنجز شيئًا، وفي المقابل لم يخطُ لبنان الخطوات التي يجب أن يخطوها سواء تلك التي طلبها الصندوق أم لا. وفق قناعات عكوش، لا يجب أن ننتظر صندوق النقد ليضغط علينا لإنجاز قانون “الكابيتال كونترول” أو قانون “إعادة هيكلة القطاع المصرفي” أو “خطة التعافي”، “صندوق إعادة الودائع”، “الصندوق السيادي المتعلّق بالغاز”. وفق عكوش، هذه القوانين والخطط من المفترض إنجازها من دون ضغط، لكن للأسف نحن كلبنانيين ننتظر ضغط الخارج رغم معرفتنا أنّ هذا الخارج لديه مصالح وأهداف سياسية من وراء تدخله في لبنان إلا أنّ الطبقة السياسية اللبنانية ــ للأسف ــ لم تترك للشعب اللبناني خيارًا سوى التعلق ولو “بحبل صغير”.
يرى عكوش في كلام ميقاتي رفعًا للمسؤولية عن الحكومة وتأكيدًا أنها قامت بما يتوجّب عليها وحوّلت المشاريع الإصلاحية الى مجلس النواب، وكلنا نعلم أن المجلس معطّل لأسباب سياسية وغيرها وهو غير قادر على إقرار وتصديق المشاريع ومن ضمنها قانون “الكابيتنال كونترول”، “إعادة هيكلة القطاع المصرفي”، “خطة التعافي أو إعادة التوازن المالي”. كل هذه الخطط لا تزال من دون إقرار. جل ما تم إقراره هو قانون “رفع السرية المصرفية” الذي صدر أعوجَ وليس كما هو مطلوب.
لصندوق النقد أهداف سياسية واقتصادية
يضيف عكوش: “في السابق تمّ عقد اتفاق وسُمي أوليًا مع الصندوق ولم يوصل الى أي نتائج”. وفق قناعاته، دون إقرار القوانين والإصلاحات المطلوبة لن يشارك صندوق النقد الدولي في عملية إقراض لبنان، فهذا الصندوق ليس جمعية خيرية إنما يريد أن يقدم قروضًا للبنان مع فوائد. تمامًا كما يريد أن يضمن تسديد هذه القروض مع فوائدها. وهنا يشدّد عكوش على أنّ لصندوق النقد أهدافًا عدّة. في نهاية المطاف، من يسيطر على الصندوق هي الدول الغربية التي لديها مصالح اقتصادية وسياسية.
يُفصّل عكوش أهداف الصندوق من عملية التفاوض مع لبنان. الأخير تحوّل الى نظام التعامل بـ”الكاش” اقتصاديًا، وبالتالي لا يناسب الغرب وصندوق النقد الدولي أن لا يستعمل لبنان القطاع المصرفي لأنّ في ذلك خروج لبنان عن عملية الرقابة الدولية بشكل كبير جدًا من الناحية المصرفية. هذا الأمر غير مناسب للمجتمع الدولي والدول الغربية تحديدًا. يريد هؤلاء أن تبقى رقابة القطاع المصرفي بيدهم وهذا كان هدفًا أساسيًا من وصفة الصندوق للبنان. برأي عكوش، يتحقّق هذا الهدف عبر إعادة تفعيل القطاع المصرفي ما يُسهم في التخلص من نظام “الكاش” لتعود العمليات المصرفية الى سابق عهدها.
يُذكّر عكوش كيف تم سابقًا إنشاء وحدات لدى مصرف لبنان ومن ضمنها وحدة “الامتثال” للتأكد من أنّ كل العمليات التي تحصل من والى لبنان مطابقة للمعايير التي وضعها الخارج. أما اليوم، فلا يوجد أدوات لتطبيق المعايير التي وضعت، لكن عندما يكون لدى لبنان قطاع مصرفي مفعّل يصبح تطبيق القوانين أسهل ما يمكّن الخارج من مراقبة النظام المالي أكثر.
كما يشير عكوش الى أنّ ثمة أهدافًا اقتصادية لصندوق النقد. لبنان لا يُعد بلدًا فقيرًا بل غني، وبالتالي قد يُفتح القطاع العام على مصراعيه أمام المصالح الاقتصادية الغربية لتستثمر هذه الدول في لبنان عبر مرفأ بيروت، مطار بيروت، وسائل النقل، الكهرباء وما الى هنالك. بهذا المعنى، قد يُصبح لبنان مفتوحًا أمام الاستثمارات الخارجية ما يعني ازدياد مخاطر إخضاعه، وبالتالي كما فرض صندوق النقد على دول عديدة كمصر التخلص من القطاع العام بأثمان زهيدة، قد يفرض على لبنان التخلص من القطاع العام بأثمان زهيدة جدًا.
بالإضافة الى الأهداف الاقتصادية، ثمّة أهداف سياسية لهذا الصندوق، يقول عكوش الذي يؤكّد أنّ ثمّة مصالح سياسية للدول الغربية التي هي دول شبه معادية للسياسة اللبنانية، وبالتالي تحمل شعار مصالح أطراف أخرى منها “إسرائيل”. وفق عكوش، سيُعطي صندوق النقد الأولوية – بالتأكيد – لمصلحة “إسرائيل” على مصلحة لبنان، وبالتالي من الممكن أن يُجبر لبنان على اتخاذ قرارات في السياسة تحقق شيئًا من المصلحة لهذا الكيان حتى ولو لم يدرك لبنان ذلك. وعليه، لا مصلحة للبنان بصندوق النقد الدولي،
لكن للأسف فالطبقة السياسية لم تترك للشعب اللبناني سوى هذا الخيار، يختم عكوش حديثه.