بدت الساعات الثماني والأربعين الأخيرة اشبه بمعمودية صعبة غالبت معها مدينة بشري جرحها المزدوج بل الطعنة المزدوجة التي ذهب ضحيتها هيثم ومالك طوق ولجمت غضبها في انتظار دولة وأجهزة امنية وقضاء يفترض ان تسارع الى كل ما من شأنه ان يدفن الفتنة ويجهضها ويطوق الارتدادات الخطيرة التي ربما اريد لها ان تتفجر عقب مقتل بل اغتيال اثنين من أبناء بشري. واذا كان الاشكال الخلافي “التاريخي” على المياه في الجرود “المتداخلة” بين بشري والضنية شكل ويشكل فتيلا متفجرا تشهد عليه اضطرابات دورية في مطالع الصيف وفصل الشحائح، فان المعطيات المثيرة لريبة شديدة والظروف الدافعة نحو شكوك واسعة في الاحداث التي حصلت منذ فجر السبت الماضي في القرنة السوداء ومحيطها بدت بمثابة عامل خلفي خطير من شأنه ان يذكي الريبة والشكوك في جريمة مزدوجة مفتعلة وليست بنت ساعتها او نتيجة اصطدام انفعالي عابر بدليل الرصاص الغادر الذي كان جاهزا ومتربصا واردى الضحية الأولى هيثم عمدا، سواء ثبت الجرم برصاص قناص او بطلقات من قرب، ومن ثم السقوط الدراماتيكي للضحية الثانية مالك وسط غموض خطير في ظروفه من دون اتضاح أي معلومات حاسمة وشفافة بعد. وفي مجمل الأحوال فان تدفق الدعوات من كل الاتجاهات الشمالية واللبنانية، ومن جميع المراجع الدينية خصوصا، لتجنب فخ الفتنة التي قد يكون اريد لابناء بشري والضنية ان يتواجهوا دمويا فيها بدت الاثبات الأول والابرز على عمق الشكوك والمخاوف التي اجتاحت البلاد في اليومين الأخيرين جراء هذه الجريمة المزدوجة. كما ان العامل الثابت الاخر المثير لشتى أنواع المخاوف تمثل تكرارا في انكشاف القصور والعجز والإهمال المزمن التاريخي للدولة ووزارتها المعنية المترهلة في حل الخلاف المقيم القديم بين المنطقتين على الحدود المائية لكل منهما بحيث بات هذا الواقع بمثابة تحريض مستدام على الفتن من الدولة العاجزة القاصرة لابناء المناطق التي تعاني من خلافات مماثلة. ولعل المشهد الذي سيبرز اليوم في بشري في وداع ابني المدينة الضحيتين يشكل الصفعة اللازمة لدولة صارت من المسببين الأول للفتن وترك مستثمري الدماء يتلطون وراء النزاعات المائية والجغرافية والعقارية بين المناطق . اذ أعلن اتحاد بلديات قضاء بشري “الحداد العام اليوم الإثنين عن روح الشهيدين هيثم طوق ومالك طوق”، وطلب من أصحاب المحال والمؤسسات التجارية والسياحية والتربوية الإلتزام بالحداد والإقفال. وحُدّد قدّاس وجناز الشابين اليوم الساعة الخامسة بعد الظهر في كنيسة السيدة في بشري .
وفقًا ل”النهار”، اعادت الجريمة وتداعياتها الحقائق المتصلة بالنزاع الى الواجهة. وبحسب مراسلي “النهار” في الشمال ففي كل موسم صيف، تحدث بعض الإشكالات والتجاوزات المرتبطة بموضوع المياه في القرنة السوداء بين أشخاص من بشري ورعاة ومزارعين من الضنية، ولا سيما من منطقة بقاعصفرين جرّاء التعدّي على مياه البرك التي تتشكل من ذوبان الثلج، والتي يقول أبناء بشري إنها تغذي المياه الجوفية في منطقتهم، فيما يرى أبناء الضنية في مياه هذه البرك شريان حياة لمزروعاتهم الصيفية في بقاعصفرين وجرد النجاص، وخزاناً طبيعياً لارتواء قطعانهم التي يرسلونها صيفاً إلى الجرود، ويستقدمون الجرافات والحفارات للحفر لمد “النباريش”، ويعتبرون أن هذه البرك تقع في نطاق الضنية العقاري. وسبب الاختلاف في النظرتين الجغرافيتين يعود إلى كون المساحة في الجرود الشمالية لم تُحسم هويّتها حتى الساعة، ولا تزال “تقريبية”.
والخلاف العقاري بين بشري وبقاعصفرين، أو الخلاف على المياه قديم جدّاً ومرّ بمراحل عدّة ومختلفة بين مفاوضات حيناً، ومشاحنات وسخونة أحياناً. وتطوّرت الأمور في كثير من المرّات إلى إطلاق نار واتهامات متبادلة. واتخذ النزاع على جغرافية القرنة في أحيان عدة طابعاً طائفياً حتى غدا كأنه تطييف لأعلى قمم لبنان، ولا سيما بعد أحداث الضنية و”فتح الإسلام” والحديث عن تدريبات لـ”داعش” في المنطقة المحاذية للقرنة من جهة الضنية.
وتجنّباً لتطوّر الخلافات المستمرة فصولاً منذ سنوات، تشكلت لجنة قضائية عقارية من أجل مسح العقارات وتحديد حدود المشاعات بين بشري وبقاعصفرين، ولكن أحوال الدولة المهترئة في السنوات الأخيرة، والظروف الصعبة التي توالت مع انتشار كورونا وحصول الانهيار حالت دون توصُّل اللجنة إلى النتيجة المرجوّة، واستمرت المشاحنات ولكنها لم تصل إلى حدود القتل في السابق.
ووسط هذه الخلفية هزت جريمة مقتل الشابين هيثم جميل الهندي طوق ومالك طوق منطقة بشري والشمال بل ولبنان كله وسط أجواء من الريبة والاشتباه في اهداف فتنوية وطائفية لهذه الجريمة مما استدعى استنفارا واسعا للجيش في المنطقة في مطاردته للمشتبه فيهم في الجريمة ومن ثم اصطدامه بمجموعة من الشباب البشراويين. وبدا السؤال بديهيا عمن يسعى الى اشعال فتنة طائفية في الشمال وهل من جهات نافذة تتآمر على البلد في ظروفه المخيفة الحالية، وماذا وراء الظروف الملتبسة التي أعقبت مقتل الشاب الأول من بشري وادت الى مقتل الشاب الثاني في اشتباك مع الجيش؟
الجيش
ولكن البيان الذي صدر عن قيادة الجيش – مديرية التوجيه ليل السبت لم يتضمن توضيحا لظروف مقتل الشاب الثاني كما بدا لافتا اشارته الى منع الاقتراب من منطقة تدريب عسكرية في القرنة السوداء اذ جاء فيه : “بتاريخ 1 / 7 / 2023، تعرّض أحد المواطنين لإطلاق نار في منطقة القرنة السوداء ما أدى إلى مقتله، كما قُتل لاحقًا مواطن آخر في المنطقة عينها. وقد نفذ الجيش انتشارًا في المنطقة ويعمل على متابعة الموضوع لكشف ملابساته، كما أوقف عددًا من الأشخاص وضبط أسلحة حربية وكمية من الذخائر. ولمّا كانت قيادة الجيش قد حذرت في بيان سابق بتاريخ 2023/6/12 المواطنين من الاقتراب من منطقة التدريب العسكرية في القرنة السوداء، تعيد التشديد على عدم اقتراب المواطنين كافة من هذه المنطقة تحت طائلة المسؤولية وحفاظًا على سلامتهم ومنعًا لوقوع حوادث مماثلة”.