أخيراً. رسمياً وأممياً ووفق إجراءات القانون الدولي، بات لبنان مرتبطاً مع اسرائيل باتفاقية دولية.
فبعد تسعة أشهر من المواربة والتحايل والنفي والإنكار، نشر موقع الأمم المتحدة قبل أيام، وضمن باب “المعاهدات”، وثيقتين اثنتين:
الأولى تحمل الرقم: 57582. وعنوان: “اسرائيل ولبنان”. وهي تتضمن نص المراسلات الثلاثية بين لبنان واسرائيل والولايات المتحدة، وملحقاتها، حول ترسيم الحدود البحرية. و”التي تشكّل اتفاقية بحرية بين دولة اسرائيل والجمهورية اللبنانية”، كما يوضح السطر الأول منها.
والثانية تحمل الرقم: 71836. وعنوان: “شهادة تسجيل”. وهي تأكيد صادر عن الأمين العام للأمم المتحدة، للتصديق على أنّ “الاتفاقية الدولية المذكورة أدناه، قد تمّ تسجيلها لدى الأمانة العامة (للأمم المتحدة) وفق المادة 102 من شرعة الأمم المتحدة”. التي تنصّ على أصول تسجيل الاتفاقيات الدولية. وتشرح إفادة الأمين العام أنّ المقصود هو “المراسلات المشتركة التي تشكّل اتفاقية بحرية بين دولة إسرائيل والجمهورية اللبنانية”. مع الإشارة إلى أنّ “التسجيل قدّمته اسرائيل في 22 كانون الأول 2022”. والتصديق صدر عن الأمم المتحدة في 14 شباط 2023.
ثمّة كلام كثير حول الوثيقتين الأمميتين الصادرتين. وثمّة أبواب للبحث في المضامين الدولية الكبيرة والحسّاسة المترتّبة عليهما.
بعد تسعة أشهر من المواربة والتحايل والنفي والإنكار، نشر موقع الأمم المتحدة قبل أيام، وضمن باب “المعاهدات”، وثيقتين اثنتين
لكننا نكتفي في هذه العجالة بالإضاءة على النقاط التالية:
1- لسبب مجهول، قرّرت الأمم المتحدة الخروج إلى علانية الاتفاقية في هذا التوقيت بالذات. وذلك بعد محاولة سابقة منقوصة حصلت في آذار الماضي. حين نشر موقعها وثيقة التسجيل، ثم بادر إلى حذفها بعد أيام. علماً أنّ الحذف عن الموقع لا يؤثّر إطلاقاً في واقع التسجيل والتصديق. وهو ما كان موقع “أساس” قد كشفه في مقالة سابقة في 17 آذار الماضي تحت عنوان: “بالوقائع والأدلّة والقانون الدوليّ: إليكم منظومة الخيانة العظمى”.
والسؤال حول توقيت النشر الآن يظلّ بلا أجوبة. خصوصاً في ظلّ توتّرات الحدود البرية بين البلدين “المتفقين” بحراً. ومع عودة الكلام عن أفكار لإعادة تثبيت الحدود البرية.
2- نقطة ثانية لافتة، لا بل مفاجئة. وهي أنّ موقع الأمم المتحدة لم يكتفِ بنشر مراسلات الترسيم وملحقاتها فقط. بل الغريب أنه نشر معها ما سماه “ملحق 1”. وهو رسالة دايفيد شينكر الموجّهة في 29 أيلول 2020، إلى المسؤولين في لبنان واسرائيل، والتي شكّلت ما عُرف باسم “الاتفاق الإطار للتفاوض”. الرسالة المذكورة مكوّنة من مقدّمة وست نقاط. وفيها مفاجأتان جديدتان. أو على الأقل تكذيبان مستجدّان لادّعاءات السلطة سابقاً وراهناً.
التكذيب الأول هو تأكيد شينكر في مقدّمة رسالته كما في الفقرة 5، أنّ موضوع الحدود البرية منفصل ومستقل عن الحدود البحرية. على عكس ما روّج يومها بعض أركان السلطة. أما التكذيب الثاني لمزاعم سلطات بيروت، فهو تأكيد رسالة شينكر في الفقرة الرابعة منها، أنه “عند الاتفاق النهائي على الترسيم، فإن الاتفاق الحدودي البحري سيودع لدى الأمم المتحدة، وفق القانون الدولي ذات الصلة، والمعاهدات والتطبيق الدولي”.
وبالتالي فإن مسؤولي السلطة كانوا منذ ذلك التاريخ، يعرفون ويُخفون حقيقة أنهم يفاوضون على اتفاقية دولية مع اسرائيل.
علماً أنّ رسالة شينكر هذه، كان الوفد الاسرائيلي المفاوض في الناقورة، قد وضعها على طاولة البحث في إحدى جولات المباحثات. وسط تفاجؤ الوفد اللبناني، الذي لم يكن على علم بها ولا مطّلع عليها. وهو تفصيل متروك لزمن لاحق أكثر شفافية ومحاسبة.
3- كما كان معروفاً ومتوقعاً، لم تتضمّن مراسلات “الفريقين المتفقين”، إلا إحداثيات أربع نقاط. هي 20 – 21 – 22 و23.
وبالتالي فهي لم تتضمّن أيّ نص واضح حول خط الطفافات. علماً أنّ النقطة 20 التي يثبتها الاتفاق المذكور هي على بعد نحو ثلاثة أميال من الشاطئ اللبناني. ما يعني أنّ المنطقة الممتدة من الشاطئ حتى النقطة 20، لا ذكر لها في هذا الاتفاق. وهي تبقى بالتالي خاضعة للنصوص السابقة التي أرسلها الطرفان إلى الأمم المتحدة. وهنا يكمن الخطر الأكبر.
ذلك أنّ مراسلة لبنان السابقة والتي وثّقت الخط 23 لدى الأمم المتحدة، لم تنطلق من النقطة B1 عند رأس الناقورة. بل من النقطة الوهمية 18 القائمة على بعد نحو 30 متراً في البحر.
ثمّة كلام كثير حول الوثيقتين الأمميتين الصادرتين. وثمّة أبواب للبحث في المضامين الدولية الكبيرة والحسّاسة المترتّبة عليهما
ما يعني أن لا إعادة تثبيت لنقطة رأس الناقورة في هذا الاتفاق.
وهو ما قد يجد جوابه في أنّ النقطة المذكورة موجودة في اتفاقية بوليه – نيوكومب وفي كلّ الخطوط والوثائق الدولية ذات الصلة.
لكن عدم ورود أيّ ذكر لها في أول “اتفاقية دولية بين دولة اسرائيل والجمهورية اللبنانية”، يشي بأنّ هذه الفذلكة كانت القطبة المخفية التي سمحت بتمرير الاتفاق.
ذلك أنّ مراسلات الاتفاق تنصّ أنه على الطرفين إيداع الأمم المتحدة إحداثيات مياههما الإقليمية أيضاً، مع إحداثيات المنطقة الاقتصادية الخالصة. وذلك وفق معاهدة الأمم المتحدة حول قانون البحار. لكنّ المؤكّد أنّ هذا لم يحصل. لا من قبل لبنان ولا من قبل إسرائيل. تحديداً حول نقطة انطلاق حدود المياه الإقليمية لكلٍّ من الدولتين، عند ملامسة البحر للبرّ. وهو ما قد يخفي أن تكون إسرائيل قد أودعت حول هذه المسألة بالذات، إحداثيات مغايرة لإحداثيات لبنان. ووافق الجميع على التغاضي عن ذلك، على قاعدة “لا نعرف ولا نسأل ولا نخبر”…
وربّما هذه هي النقطة الرمادية الملتبسة التي أشار إليها أمين عام الحزب في خطابه بعد توقيع الاتفاقية. والتي فضّل ترك التفصيل فيها لمرحلة لاحقة كما قال.
4- تبقى مسألة أخيرة، وهي أنّ ما أعطته الاتفاقية الدولية لإسرائيل من قدرة على التحكّم في التنقيب في مكمن قانا، وما جعلته هذه الاتفاقية نهائياً ولا عودة عنه، سيكون محطّ اختبار في الشهرين المقبلين. خصوصاً مع وجود نتنياهو على رأس حكومة الدولة “المتفقة” مع لبنان، وفي ظلّ التوتّرات الحدودية القائمة والتي قد تستجدّ.
منذ نحو ألفي عام، أكّد رجل عظيم “أنّ كلّ من يعمل السيئآت يبغض النور. ولا يأتي إليه لئلّا توَبَخ أعماله”.