منذ ما بعد ظهر يوم السبت الفائت، يَنشغل اللبنانيون في تفسير ما حصل في سوق الصرف. أكثر من تفسير أُعطِي لظاهرة ارتفاع الدولار المفاجئ، ومن ثم انخفاضه، بعد بضع ساعات. هل ما جرى رسالة أم جَسّ نبض؟ أم هو مجرد صدفة يصعب تصديق توقيتها؟
كانت التطبيقات الالكترونية التي تحدّد سعر الصرف في السوق الموازية شِبه عاطلة عن العمل في الفترة الأخيرة، وقد تراجعت نسَب الدخول إليها لمعاينة سعر الليرة مقابل العملة الخضراء الى مستويات غير مسبوقة. فجأة، تسرّبت الى مسامع الناس «خَبرية» تقول انّ سعر صرف الدولار شِبه الثابت منذ بضعة اشهر، تحرّك صعوداً وبشكل سريع، بحيث اقترب من عتبة الـ100 الف ليرة. هذا الخبر الصاعق أعاد الحيوية والنشاط الى التطبيقات التي تُسَعّر الدولار، فشهدت عمليات دخول كثيف، افتَقدَتها منذ فترة طويلة.
فماذا جرى بعد ظهر السبت الفائت؟ وهل من تفسيرات منطقية لارتفاع الدولار ومن ثم انخفاضه في بضعة ساعات؟
قبل تحليل المعطيات، وصولاً الى إطلاق تقديرات في شأن ما جرى، لا بد من تسجيل ملاحظات لعلّها تساعد في حُسن التقدير، ومن أبرزها:
اولاً – تحرَّكَ الدولار صعوداً ومن ثم هبوطاً في عطلة الاسبوع، أي في غياب عمل منصة صيرفة التي كانت تسدّ حاجات السوق، من خلال رفع سقفها الى مستويات شبه مفتوحة.
ثانياً – انها المرة الاولى، منذ بدأ الدولار الانخفاض ومن ثم شبه الاستقرار، بعد قرار مصرف لبنان التدخّل بقوة في السوق في آذار 2023، التي يشهد فيها سوق الصرف هذا النوع من الاضطراب.
ثالثاً – ما جرى تَمّ في وقت سريع، ولم يدم اكثر من ساعتين أو ثلاث على الاكثر.
رابعاً – ان الدولار عاد الى قواعده بعد الارتفاع المفاجئ، لكنه لم يعد الى السعر الذي انطلق منه، أي الى 91.500، بل استقرّ على 93.200، ومن ثم ارتفع قليلاً في اليوم التالي الى 94 أو 95 الف ليرة. وهو السعر الذي كان سائداً قبل شهرين تقريباً.
إنطلاقاً من هذه الملاحظات، يمكن استبعاد نظرية ان يكون ارتفاع الدولار مرتبطاً بالمناخ السلبي الذي أشاعَته المعلومات في شأن قرار نواب حاكم مصرف لبنان تقديم استقالاتهم اليوم الاثنين.
في المقابل، اعتبر البعض انها رسالة من رياض سلامة، أراد من خلالها ان يقول انّ غيابه عن المشهد النقدي بعد 31 تموز سيؤدي الى انهيار الليرة. وبالتالي، لا بد من ابتداع صيغة ما لإبقائه في موقعه اذا ارادت الدولة ان يبقى سعر الصرف مستقرا، كما هو الحال منذ بضعة أشهر. لكنّ هذه الفرضية تبدو ضعيفة بعض الشيء، على اعتبار ان استقرار الليرة الموقّت مُرتبط بقرار تدخّل مصرف لبنان في السوق. وبالتالي، أي شخص او فريق يبقي على مبدأ دعم الليرة، يستطيع ان يحافظ على الاستقرار الموقّت للعملة الوطنية. وبالتالي، الامر لا يرتبط بوجود سلامة او غيابه، بل بقرار الاستمرار في استخدام احتياطي العملات في عملية الدعم. لكن ضعف هذه النظرية لا يعني استبعادها بالكامل، لكنّ نسب ترجيحها ضئيلة.
تبقى نظرية المضاربة والمضاربين، وهي تعني ان المستفيدين من استمرار عمل منصة صيرفة، والخائفين من ان ينفّذ نواب الحاكم تهديداتهم بِوَقفها، أرادوا ان يبعثوا رسالة مفادها ان الدولار سيحلّق فور إلغاء عمل المنصة. وهم بالتالي، يضغطون منذ الآن، لِدَفع من سيكون في يدهم القرار بعد 31 تموز، الى التراجع عن فكرة وَقف عمل المنصة. كذلك، فإنّ المضاربين أرادوا ربما، أن يَجسّوا نبض السوق لاستكشاف قدراتهم على التلاعب به، في المرحلة المقبلة.
يبقى السؤال الذي يطرحه الناس دائماً، كيف تتم هذه العمليات، وهل انّ الصرافين يتفقون فيما بينهم على تنفيذ مثل هذه الخضات؟
في الواقع، لا يحتاج الامر الى اتفاقات واسعة لتنفيذ مثل هذه العمليات، بل يكفي ان تكون هناك مجموعة من المضاربين لديها قدرات مالية جيدة، وان تختار التوقيت المناسب لِضَرب ضربتها. وهذا ما حصل بعد ظهر السبت، حين كانت الاسواق هادئة، ومصرف لبنان خارج السمع، هناك من دخل الى السوق وطلبَ شراء كميات كبيرة من الدولار، مع عِلمه المُسبَق بأن الدولارات غير متوفرة بكثرة، وعرضَ الشراء بسعرٍ أعلى من السعر المتداول. وهكذا بدأت الاتصالات فيما بين البائعين المُحتملين، وراحَ «الزبون» الذي يطلب الشراء يرفع السعر بذريعة تشجيع المُترددين على البيع.
وهكذا ارتفع السعر في السوق، وعلى التطبيقات الالكترونية. وانتهى الامر بِوَقف الطلب فجأة، بما أعاد الدولار الى الهبوط، مع تسجيل عامل الحذر الذي أبقى سعر العملة الخضراء على 93.300 وليس على 91.500. وبهذه الطريقة أصاب المضاربون عصفورين بحجر واحد: وَجّهوا رسالة الى من يعنيهم الامر بضرورة الابقاء على صيرفة، وجَسّوا نبض السوق لاستطلاع قدراته على التماهي مع العمليات التي قد تتمّ في المستقبل. ودفعوا ثمن العملية حفنة من الدولارات، سَجّلوها ضمن الخسائر المؤقتة على دفتر العمليات الذي غالباً ما يُنهي العام على قدرٍ وفير من الارباح.