قد لا يكون من الصعب القول إنّ الخطوة التي قام بها الحزب بنصب خيمتين خلف الخطّ الأزرق في منطقة مزارع شبعا، حسب الرواية الإسرائيلية، كانت ردّاً على إجراءات إسرائيل من أجل إنشاء منطقة عازلة في هذه المنطقة وقيامها بعمليات تجريف داخل الأراضي اللبنانية، أو القول إنّ الخطوة الإسرائيلية في القسم اللبناني من قرية الغجر المتمثّلة في إحاطته بسياج يعزله عن الداخل اللبناني جاءت ردّاً على نصب هاتين الخيمتين، وإنّ التردّد الإسرائيلي المستمرّ منذ أكثر من شهر في الردّ على هذه التطوّرات هو تعبير عن حجم الإرباك الذي تعانيه قيادة تل أبيب في إدارة هذا الملفّ والسير بحذر على حافة التوتّر والحرص على عدم انزلاق الأمور إلى مواجهة عسكرية في ظلّ انقسام داخلي غير مسبوق على خلفيّة التعديلات في صلاحيّات ودور المؤسّسة القضائية، وأيضاً الغموض الذي يعتري موازين “معادلة الردع” التي ترفض الاعتراف بها، بالإضافة إلى ضغوط أميركية من أجل ضرورة التهدئة وعدم أخذ المنطقة إلى معركة لا تتناسب مع التوقيت الأميركي في ظلّ العلاقة المتوتّرة بين إدارة البيت الأبيض ورئاسة الحكومة الإسرائيلية.
ماذا يُحضّر في الخفاء؟
إذا ما كانت هذه السردية تمثّل جزءاً أو بعداً من سردية الحزب في التفسير الذي يقدّمه لجمهوره خاصة، وللّبنانيين عامة، فإنّها أيضاً تخفي خلفها مؤشّرات إلى وجود شيء ما يُعمل على إنضاجه خلف الكواليس في الدوائر الدولية والإقليمية يرتبط بالتطوّرات التي تشهدها المنطقة والحوارات والمعادلات الجديدة التي بدأت بالتسارع بعد العاشر من شهر آذار الماضي والتوقيع على الاتفاق الثلاثي بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران برعاية صينية.
قد لا يكون من الصعب القول إنّ الخطوة التي قام بها الحزب بنصب خيمتين خلف الخطّ الأزرق في منطقة مزارع شبعا، حسب الرواية الإسرائيلية، كانت ردّاً على إجراءات إسرائيل
إذا ما كان تفعيل اتفاق ترسيم الحدود البحرية قد انطلق بشكل جدّي بعد اللقاء غير المعلن في الخامس من حزيران من عام 2022 بين الجانبين الأميركي والإيراني في العاصمة العراقية بغداد الذي وضع الأرضيّة للتفاهم حول التعاون أو عدم الذهاب إلى صدام على الساحة العراقية، وسمح للحفّارة إنرجين بالدخول إلى حقل كاريش، فإنّ تنشيط الترسيم في لبنان والوصول إلى الصيغة النهائية لهذا التفاهم كانا بحاجة إلى مسيّرات أطلقها الحزب فوق هذا الحقل والتلويح بالنسخة من صواريخ ياخونت البحرية الموجودة في ترسانة الحزب.
على غرار تفاهم بغداد الذي ما يزال ساري المفعول حتى الآن، فإنّ تسخين الأوضاع في منطقة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر، التي تمثّل الورقة الرئيسة والعماد الأساس للحزب في تسويغ شرعية سلاحه من أجل تحرير ما بقي من الأراضي اللبنانية، يبدو أنّ الأطراف المعنيّة بتركيب المعادلات الإقليمية قد أعادت إخراج ورقة الترسيم البرّي بين لبنان وفلسطين ووضعتها على طاولة التفاوض، وهي الورقة التي وضعت أولويّاتها بعد حرب تموز 2006، وتؤكّد أنّ أيّ ترسيم للحدود البرّية لا بدّ أن يبدأ من نقطة هذه المزارع، وأن يذهب باتجاهين، الأوّل غرباً باتجاه البحر ورأس الناقورة لترسيم الحدود الجنوبية مع فلسطين، والثاني يذهب شمالاً لترسيم الحدود الشرقية مع سورية، على أن يسبق هذه الخطوة التفاهم على وضع هذه المنطقة تحت إشراف الأمم المتحدة.
يبدو أنّ الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله اتّخذ كلّ احتياطاته في خطوة استباقية لأيّ مسار تفاوضي قد ينطلق في المرحلة المقبلة من أجل الترسيم البرّي
المبادرة الاستباقية لترسيم الحدود البرّية
الحديث الواضح والصريح للأمين العامّ للحزب حول الترسيم البرّي، ووضعه في إطار اتفاقية الترسيم الدولية التي جرت عام 1949 المعروفة باتفاقية الهدنة أو “الخطّ الأخضر”، قد يشكّل مبادرة استباقية لقطع الطريق على أيّ تداعيات سلبية قد تنتج عن تفعيل هذه الورقة وتفرض عليه أمراً واقعاً لا يتوافق أو ينسجم مع مواقفه كما حصل في الترسيم البحري الذي كان مجبراً على دعم الموقف الرسمي للدولة اللبنانية والالتزام بما تمّ الاتفاق عليه مع المبعوث الأميركي في اتفاق الإطار من دون الأخذ بملاحظاته، فضلاً عن إدارة الظهر له من قبل المفاوض الأميركي الذي استطاع الحصول على الترسيم وأدار ظهره لأيّ حوار مع الحزب حول مستقبل دوره وموقعه في المعادلة الداخلية اللبنانية.
كلام الوزير الأسبق محمد فنيش مع قناة المنار صباح يوم الجمعة في 14 تموز 2023، والتأكيد أنّ السبب الرئيس للعداوة بين الحزب والولايات المتحدة يرتبط بالدعم الذي تقدّمه “للعدوّ الإسرائيلي” وأنّه “خارج هذه النقطة” لا توجد عداوة معها، وهو كلام صادر عن الموقع الذي يمثّله فنيش داخل تركيبة الحزب والقريب من مصدر القرار وما يدور في كواليس النقاشات الداخلية للحزب، ربّما يكشف من جهة عن حالة “عتب”، إذا صحّ التعبير، لدى الحزب على واشنطن التي ترفض حتى الآن التواصل معه الذي كان منتظراً أن يبدأ بعد تمرير الترسيم البحري، ويؤكّد من جهة أخرى أنّ أيّ خطوة جديدة في الترسيم البرّي لن تكون من دون تفاهم واضح وتواصل مباشر وموثّق حول مستقبل لبنان السياسي بما فيه أزمة انتخاب رئيس الجمهورية.
في المقابل، يبدو أنّ الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله اتّخذ كلّ احتياطاته في خطوة استباقية لأيّ مسار تفاوضي قد ينطلق في المرحلة المقبلة من أجل الترسيم البرّي، خاصة أنّ المبعوث الأميركي آموس هوكستين يستعدّ لزيارة المنطقة على خلفية التوتّر حول الحدود بين لبنان وإسرائيل، من خلال وضع محدّدات لا يمكن المساومة عليها، ويشكّل ترسيم الخطّ الأزرق وحدود اتفاقية الهدنة أساس أيّ تفاوض، ولن تقتصر هذه المحدّدات على النقطة B1 في الناقورة، بل كلّ النقاط الخلافية أو “المتنازع عليها ضمن الخط الأزرق”، في رسالة واضحة تؤكّد استعداده للتصدّي لأيّ تسوية قد تلجأ إليها الجهات التي ستتولّى التفاوض، وأنّ الحزب على استعداد للذهاب إلى كلّ الخيارات في حال حاول البعض فرض أيّ معادلة عليه لا تنسجم مع رؤيته أو استراتيجيته لمآلات هذه الخطوة، التي من المفترض أن تنعكس على موقعه داخل المعادلة الداخلية للنظام والدولة، ولن يسمح بأن تكون على حسابه، خاصة ما يتعلّق منها بمستقبل السلاح الذي أكّد نصر الله مراراً أنّه “باقٍ ولن يمسّه أحد ما لم يقدَّم مشروع بديل حقيقي”.