تحاول باريس أن تتأقلم مع ما حصل في الدوحة. وإذا كانت تحتاج إلى مراجعة استراتيجيتها تمهيداً للخطوة المقبلة، فإن القوى اللبنانية في المقابل تحاول الإفادة مما حصل، كلٌّ على طريقتها.
تدرس فرنسا المرحلة التي تلت لقاء الدوحة وكيفية التأقلم مع ما شهدته من سقوف وضعتها الدول الأربع الأخرى المشاركة. علماً أن ليس من السهل، بعد الأشهر التي ضاعت إثر مبادراتها، أن تعيد صياغة استراتيجيتها لتعمل على خط التعاطي مع الوضع اللبناني. وهذا يعني تسليماً من إدارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن ما حصل في الدوحة لم يكن في حجم توقّعات باريس التي احتملت أن يأخذ اللقاء الخماسي فكرة الحوار الفرنسي بجدية ويتبنّاها بالمطلق، رغم نصائح أسديت إليها بالامتناع عن طرحها لعدم جدواها، ورغم حجم الاعتراض في لبنان والخارج على ما تسرّب عن أشكال الدعوة إلى الحوار التي ظلت مبهمة حتى بالنسبة إلى باريس نفسها.
سلّمت إدارة ماكرون بعد الدوحة بأن ما جرى يعني، بالدرجة الأولى، أن واشنطن ضبطت إيقاع اندفاعتها نحو وضع إطار للحل لا يأخذ في الاعتبار كثيراً من المسلّمات الأميركية، ولا سيما أن باريس تحرّكت مفترضة دعماً أميركياً كاملاً لها، إلا أنها ذهبت بعيداً في عدم التقاط ما تريده الولايات المتحدة التي ترفض التفريط في أوراقها في لبنان، ولا تبدي حماسة لإيجاد حل سريع وشامل.
كما سلّمت باريس بأن السعودية، وإن لم تعد أعادت الإمساك بورقة لبنان كاملة، إلا أنها أعادت تأكيد حضورها في أي مفاوضات حوله. وفي هذا السياق، لم يكن عابراً لقاء وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان بالموفد الفرنسي جان إيف لودريان، ولا بيان الخارجية السعودية عن اللقاء. وما لم تلتقط فرنسا أهميته سعودياً، حرص الرياض على اتفاق الطائف كمنطلق أساسي لمقاربة الأزمة وصعوبة أن تقفز السعودية فوق الاتفاق، وأن تتجاهله دستورياً وسياسياً. وهذا ما لم تقدّر باريس أهميته، ما جعلها تفترض أن أي حوار حالي سيبقى محصوراً باسم الرئيس الجديد واسم رئيس الحكومة، في حين أن ما تراه السعودية مختلف تماماً، إذ لا يمكن التعاطي مع الاتفاق كلازمة سياسية إنشائية، وأهمية الطائف بالنسبة إليها تأتي انسجاماً مع نظرتها إلى دوره في ضبط إيقاع القوى السياسية والسلطتين التنفيذية والتشريعية، ما يجعل من السهل إدارة الحكم تحت سقفه من دون اللجوء في كل مرة إلى حوار يعيد طرح الصيغة على طاولة البحث.
في المقابل، وبقدر ما تسعى باريس إلى التأقلم مع مندرجات الدوحة ودخول العاصمة القطرية مجدداً على ملف لبنان، يفترض رصد ما سيرتدّ من لقاء الخماسية على الأفرقاء المعنيين في لبنان، الثنائي الشيعي والقوى المسيحية، المعارضة والتيار الوطني الحر، والقوى السنية.
لم تعد لدى القوى السنية على اختلافها، بعد اليوم، ذريعة الانسحاب السعودي من واجهة الحدث اللبناني لتبرير أي اندفاعة غير محسوبة في اتجاه يُفهم منه إما الانكفاء عن الحضور السياسي بما يتعارض بقوة مع دور الرياض في لقاء الدوحة، أو الذهاب بعيداً في مواقف متباينة من المعركة الرئاسية بذرائع لم تعد مبرّرة بعد الدوحة. رغم أن ثمة من يشير إلى أن الرياض بمجرد أن ساهمت في وضع خريطة طريق في الخماسية، لم تعد قادرة على التفرج من دون خطوات عملانية مع هذه القوى، وأي «تصعيد» سياسي بحجم الدوحة لا يستقيم من دون أدوات تنفيذية بالمعنى السياسي المحض.
أما القوى المسيحية المعارضة فقد سبقت لقاء الدوحة بتأكيد المسلّمات نفسها تقريباً، ورفضت الحوار المجاني مع حزب الله. هذا الموقف ساهم في تظهير مصير الحوار المجهول، عربياً وأميركياً، وأعطى التشدد المعارض إشارة واضحة كان من الصعب تجاوزها. إلا أن المعارضة، وإن كانت ارتاحت لمضمون البيان بعيداً عن الرغبات الفرنسية، لم تمتلك بعد كلمة السر النهائية حول ما بعد الدوحة، ما يضيف إرباكاً على موقفها.
يبقى الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر. قد يكون التيار أخذ من لقاء الدوحة ما يرضيه لجهة دفن المبادرة الفرنسية، لكنه قطعاً لن يكون ميالاً إلى تأييد أي اقتراحات قد تنجم عنه لاحقاً بدعم قائد الجيش العماد جوزف عون وطرحه كمرشح وسطي. والتيار الذي يرحب مبدئياً بكل دعوات الحوار وسبق أن زار فرنسا لهذه الغاية، كان يعرف سلفاً أن الحواجز الموضوعة أمامها ستفشلها حتماً. إلا أنه التقط الفرصة السانحة محلياً التي جعلته مجدداً مركز جذب لحزب الله. بعد ما جرى بينهما، كان التيار يعرف أن الحزب بعد جلسة 14 حزيران، رغم محاولات الثنائي إظهار إيجابيات الأصوات «الإضافية» التي حصل عليها، سيكون أمام خيار واقعي بفتح باب الحوار مجدداً مع التيار. يختلف التيار والحزب على المرشح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، لكن التيار لا يرفض حواراً بالمطلق مع الحزب كما تفعل القوى المعارضة. ويعرف أن ذلك المكان هو الخاصرة الرخوة للحزب بعدما كثرت الأصوات المعارضة له سنياً ودرزياً ومسيحياً. فحوار الحزب والتيار، مع ما شهدته العلاقة بينهما من صدامات بالجملة والمفرق، يلتقيان على بضع نقاط يستفيد أحدهما من الآخر فيها. بعد الدوحة بمفاعيلها، ينتظر حزب الله الخطوة التالية العملانية، من باريس والدوحة والرياض، وتفاعل أفرقاء الداخل معها، وعلى هذه الخطوات سيبني مطالعته. وفي الانتظار يستمر في توسيع رقعة الحوار مع التيار.