لا موقف لبنانيّاً موحّداً ولا تنسيق بشأن اللجنة الوزارية المكلّفة زيارة سوريا لبحث ملفّ النازحين السوريين، لأنّ تضارب الصلاحيّات والمسؤوليّات بين الوزارات شكّل عائقاً، ولأنّ تشكيل الوفد انقسم بين متحمّس للخطوة وبين متهيّب منها بسبب قانون قيصر وعقوباته.
كلّ ما يثار عن ملفّ النازحين أمنياتٌ أكثر ممّا هو وقائع. فعلى الرغم من إعلان تشكيل اللجنة وضرب المواعيد، فإنّ السلطات السورية لم تتبلّغ بأيّ طلب موعد من أجل زيارة، باستثناء طلب وزير الخارجية عبدالله بوحبيب زيارة سوريا، الذي أودعه القائم بالأعمال في السفارة السورية، ولم يتسلّم ردّاً عليه بعد. أمّا خطوات وزير المهجّرين عصام شرف الدين فهي تعبّر عن حماسة زائدة أكثر منها عن وقائع ثابتة.
ليس معلوماً هل كان واجباً شكر البرلمان الأوروبي على تقريره الذي تماهى فيه مع رغبة اللبنانيين بمحاسبة المسؤولين عن الفساد، فدغدغ مشاعرهم بتسمية الأشياء بأسمائها ثمّ وجّه ضربته القاضية بتوصيته عدم إعادة النازحين إلى بلادهم، باعتبار أنّ شروط العودة الطوعية لم تكتمل بعد. فتوصية البرلمانيين التي تلقّفها اللبنانيون، مسؤولين وناساً عاديّين، ضربت عرض الحائط بمطالب لبنان وسعيه الأممي إلى استصدار قرار يعيدهم ويضمن تقديم المساعدات الأممية لهم على أرضهم.
ليس التقرير وحده الذي كشف نيّة دول أوروبا ورغبتها في إبقاء النازحين في لبنان، بل كلّ جهود الدبلوماسيين المعتمَدين في لبنان صبّت في هذا الاتجاه، ولا سيّما من بينها مساعي سفراء الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً فرنسا وألمانيا. لكنّ اللافت دخول دول أخرى على خطّ انعدام الحماسة لإعادتهم، ومنها روسيا وإيران.
روسيا وإيران والسعوديّة
بعد مبادرتها لإعادة النازحين، انسحبت روسيا من الملفّ تدريجياً في أعقاب الحرب على أوكرانيا، خصوصاً بعد الموقف اللبناني الرسمي الذي أزعج الروس، وهو ما يؤكّد أنّ ورقة النازحين كان الهدف الروسيّ منها استخدامها في مواجهة الغرب.
أمّا إيران فقد دخلت على الخطّ حديثاً من خلال ما أظهرته دبلوماسيّتها من عدم حماسة أيضاً، حتى بدا أنّ الملف غير مدرج على أجندة الإيرانيين مشكّلاً خطّة تتعارض والمساعي السعودية التي عبّرت عنها اللجنة العربية لتزخيم عودة النازحين إلى بلادهم. فبينما تسعى السعودية إلى إعادة النازحين منعاً لأيّ تغيير ديمغرافي، لا تبدي إيران حماسة لذلك معزّزةً الشكوك في رغبتها بتشييع مناطق سوريّة بالكامل.
يتحدّث متابعو الملفّ عن أهداف ديمغرافية وجيوسياسية لمنع عودة النازحين، وأنّ هذا الملفّ تحوّل إلى ورقة ضغط سياسية لن يكون حلّها من خلال زيارة وفد وزاري مهما علا شأنه. ويعتبر هؤلاء أنّ الملفّ خرج من حيّزه الإنساني إلى سياق المزايدات والكيديّات السياسية، إن في الداخل اللبناني أو على المستوى الإقليمي والدولي. وبصورة واضحة باتت تعمل المنظّمات المعنيّة بشؤونهم ضدّ تأمين هذه العودة.
تكشف مصادر وزارية لبنانية عن رفض منظمة شؤون اللاجئين تسليم لبنان داتا المعلومات المتعلّقة بالنازحين إلا بشرط منح إقامات لنحو مليون و600 ألف نازح سوريّ. وهذا أمر بات معروفاً، لكنّه يتعارض مع القوانين الدولية، ويتعارض مع الأخلاق التي يُفترض أن تحميها منظّمة النازحين التي تطلب من لبنان احترامها فيما هي تعرض داتا السوريين في بازار المفاوضات السياسية.
في الأبعاد الإقليميّة والدوليّة
من السذاجة بمكان حصر ملفّ عودة النازحين بأبعاده اللبنانية والعلاقة مع سوريا وعدم مقاربته من أبعاد أخرى مختلفة. فوفق ما تبيّن فقد أُعطي اتفاق بكين بين السعودية وطهران أكثر من حجمه في ما يخصّ المنطقة. فالتسوية بين القوّتين الإقليميّتين لم تعطِ قوّة دفع لكلّ الملفّات في المنطقة، وبات ملفّ النازحين محلّ نزاع بين الغرب وسوريا، وبالتالي بين الغرب وروسيا.
لقد بات واضحاً أنّ الغرب يستخدم كلّ الأوراق في حربه المفتوحة على روسيا من خلال أوكرانيا، ومنها ورقة النازحين السوريين. وقد تعقّدت هذه الأزمة مع اشتداد المواجهة بين سوريا والغرب، خصوصاً مع دخول سوريا مرحلة جديدة من الالتزامات، وبعد الانفتاح الخليجي على نظام بشار الأسد، الذي أغضب الغرب، وأوروبا وأميركا بشكل خاصّ، ففرض الواقع نوعاً من تلاقي المصالح الموضوعية بين إيران والغرب على منع عودة النازحين، ولكلّ منهما أسبابه الموجبة. إذ لا يريد الغربيون الاعتراف بالنظام وبانتصاره، ولا يريدون أن يذهب النازحون عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، ولذا يعملون على إبقائهم حيث هم، وتمويل هذا البقاء، رافضين تمويل العودة.
أمّا موقف إيران المستجدّ فهو جردة حساب للمكتسبات التي حقّقتها بعد سنين طويلة كانت خلالها الداعم الأساسي للنظام السوري قبل دخول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الخطّ. وفي حساباتها أنّها دفعت كلفة باهظة، فماذا يمكن أن تحقّق من مكتسبات داخل سوريا، على غرار ما حقّقت في العراق من خلال حكومة محمد شياع السوداني، وفي لبنان من خلال النفوذ السياسي والعسكري للحزب.
جعل هذا الموقف المستجدّ إيران تتريّث في دعم خطط إعادة النازحين. وتُرجم ذلك بموقف الحزب المتريّث، على ما ينقل من فاتحوا قياداته بالموضوع. وجرت بعض المناقشات بعيداً عن الأضواء. وبهذا المعنى هو تلاقٍ موضوعيّ بين الغرب وإيران في سلوك الطريق ذاته لأسباب مختلفة.
لكنّ هذا الملفّ يمثّل نقطة تعارض مع مساعي السعودية التي كانت أوّل شروطها على الرئيس السوري بشار الأسد هي الضغط من أجل تخفيف نفوذ إيران والحزب في سوريا ووقف تصدير الكبتاغون إلى الخليج والالتزام بعودة السُّنّة إلى قراهم. وفي مؤتمر عمّان تعهّدت السعودية بتمويل العودة وإعادة التوازن للنظام شرط تحقيق اصلاحات دستورية ولو لاحقة. وهكذا تتناقض الشروط السعودية مع دفتر الشروط الإيراني، فوصلت أزمة النازحين إلى هذا المأزق الذي يدفع ثمنه لبنان. وأصبح هذا الملفّ مرتبطاً بالحوار السعودي الإيراني، الذي ربّما يحتاج إلى الكثير من الوقت كي ينسحب على ملفّات المنطقة الكثيرة والمعقّدة.
ما هو موقف النظام السوريّ؟
يجري كلّ ذلك بينما ترزح سوريا تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة تجعلها عاجزة عن إعمار ما تهدّم وغير جاهزة لاستقبال ملايين النازحين. في المقابل أثبتت العودة الطوعية فشلها إذ لم يتقدّم بطلب العودة سوى أعداد قليلة. أمّا النقطة الأهمّ فهي عدم تبلور أيّ مساعدات لإعادة الإعمار ضمن خطوات عمليّة حتى الآن، فباتت العودة مستحيلة.
ولا ننسى حديث الرئيس بشار الأسد عن “المجتمع المتجانس”، الذي قصد به أنّ رحيل ملايين السُّنّة أوجد توازناً في الداخل بين أعداد العلويين والشيعة والدروز، وبين السُّنّة. فما الذي يدفع النظام إلى فتح أبوابه أمام قوافل العائدين وهو بالكاد يوفّر قوت المقيمين، خاصة أنّ الدول الي تمنح هؤلاء مساعدات تشترط مساعدتهم على أرض الدول المضيفة لا على أرضهم؟ فمن هو النازح الذي سيترك وراءه راتباً بالدولار “الفريش” وإقامة وبدل سكن ويرحل باتجاه المجهول؟ وأيّ حنين ذلك الذي سيدفع جيلاً كاملاً نحو بلد لم يختبر العيش فيه بعد؟
تقول مصادر مطّلعة على الملفّ من ناحية سوريا إنّ سوريا لن تمانع بحث ملفّ النازحين مع الحكومة اللبنانية ومناقشة ورقة عمل كاملة متكاملة يقع ضمنها أعداد النازحين وأوضاعهم وتوزّعهم الجغرافي وعدد مكتومي القيد من بينهم. ولا تنكر هذه المصادر أنّ عودة النازحين لا تتوقّف على اتفاق مع لبنان لأنّ للعودة شروطها، وأهمّها إعادة الإعمار وإصلاح البنى التحتية، وهذه شروط غير متوافرة بعد لرفض المجتمع الدولي المساعدة وربط العودة بالحلّ السياسي، فضلاً عن تأخير انطلاق ورشة الإعمار، وهو ما يصعّب عودة الأعداد التي يُحكى عنها. وتمضي قائلة لـ”أساس”: “باختصار، سوريا غير جاهزة لاستقبالهم بعد بسبب ضعف الإمكانيات وعدم بدء ورشة الإعمار، وإذا كانت اللجنة العربية وعدت بالمساعدة على إعادتهم فإنّ اللجنة لم تعاود الاجتماع بعد، ووعودها لم تتبلور إلى خطوات عملية”، غامزةً من قناة ضغوط دولية فرملت اندفاعة اللجنة وجمّدت مساعيها.
هذا كلّه والحكومة اللبنانية توارب في الحوار مع سوريا بشأن النازحين وتريده حواراً بالواسطة و”من بعيد لبعيد”، من دون مراسلة رسمية ولا ورقة عمل واضحة، خشية تعرّضها لعقوبات قانون قيصر الأميركي وتوابعه. ولا تواجه المسعى الدولي إلى توطينهم في لبنان، بل تبدو كأنّها تهرب إلى الأمام بدعوات إعلامية إلى الحوار لا تفي بالغرض، تماماً كما لم يكن وافياً بالغرض الشجب الذي ووجه به تقرير البرلمان الأوروبي فيما التزمت الحكومة والبرلمان الصمت المطبق.