لم يُفاجأ حاكم المصرف المركزي بالوكالة ونواب الحاكم الثلاثة بموقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي قذف “كرة الاقتراض” من السراي إلى ساحة النجمة. كان هذا الاحتمال قائماً و”الحكّام” في جوّه منذ الإثنين الماضي لجهة إمكان إقرار قانون الإجازة للحكومة الاقتراض من مصرف لبنان بموجب اقتراح قانون يقدّمه نائب أو أكثر ويُصوَّت عليه في البرلمان.
لن تسكنهم الدهشة أيضاً أمام سيناريو متوقّع يتنصّل فيه مجلس النواب نفسه من مهمّة تشريع الاقتراض ممّا بقي من الاحتياطي الإلزامي، أي من “جيب المودعين”، خصوصاً أنّ الحجّة جاهزة لتطيير نصاب جلسة تشريع غير جائزة في ظلّ عدم وجود رئيس جمهورية أو تضارب المواقف السياسية من تشريع الاقتراض بالعملات الصعبة “لمرّة واحدة وأخيرة”.
لسان حال “الحاكم” ونوابه أنّ الألغام السياسية متوقّعة والعرقلة سِمة المرحلة، لكنّ السؤال الأساس: هل يرفع هؤلاء مجدّداً عصا الاستقالة في حال أطاحت القوى السياسية بأجندتهم المعلنة كشرط لتسلّم مهامّ الحاكم؟
لم يُفاجأ حاكم المصرف المركزي بالوكالة ونواب الحاكم الثلاثة بموقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي قذف “كرة الاقتراض” من السراي إلى ساحة النجمة
في الساعات الماضية برزت روايتان في شأن نأي ميقاتي بنفسه تماماً عن ملفّ “تشريع الاقتراض” من مصرف لبنان:
– الأولى: تحميل ميقاتي، وفق معلومات “أساس”، الحزب مسؤولية عرقلة التوافق على مشروع القانون في مجلس الوزراء ثمّ إحالته إلى مجلس النواب لإقراره “بسبب استرساله في المزايدات السياسية إرضاءً لجبران باسيل، ولغايات أخرى”.
يتّهم ميقاتي الحزب مباشرة بأنّه “كان الرافض الأوّل للتعيين والتمديد، وبسببه طارت جلسة الخميس، لكنّه عاد وأعطى ضمانات لرئيس الحكومة بتسهيل مهمّة نائب الحاكم الأول وسيم منصوري والتصويت على مشروع قانون الاقتراض، وها هو ينقلب فجأة على تعهّداته بطرح فكرة التوسّع في النقاش في مشروع القانون”.
لذلك أتى الردّ سريعاً من رئيس حكومة تصريف الأعمال. استند ميقاتي إلى نصّ المادّة الرابعة من مرسوم تنظيم أعمال مجلس الوزراء من أجل تبرير انسحابه من ملعب تشريع الاقتراض، مستنتجاً أنّ “مناقشة مشروع القانون في الحكومة ستستغرق وقتاً فيما مصرف لبنان يحتاج إلى وتيرة أسرع”، مقترحاً تقديم اقتراح قانون من قبل النواب.
ميقاتي الذي لا يرى أنّ هناك إشكالية في وضع ثلاثة تواقيع له على المراسيم الصادرة بغياب رئيس الجمهورية، وَقَفَ هذه المرّة على خاطِر المُعترِضين على إرسال مشروع قانون من حكومة تصريف الأعمال إلى مجلس النواب، وهو “ما يعني إضاعة المزيد من الوقت”، برأيه. وبالتالي، حيّد حكومته بالكامل عن “لغم” تأمين تغطية قانونية للمسّ بالتوظيفات الإلزامية… والسبب الحزب.
لهذه الرواية نسخة مضادّة تُسلّم بأنّ “الثنائي الشيعي صاحب مصلحة بتأمين التغطية من كلّ القوى السياسية لمنصوري كي يحكم تحت سقف تشريعات قانونية وليس عرقلة عمله”.
– الثانية: اتّهام بعض نواب الحاكم وقوى سياسية ميقاتي باستدراج “الإدارة الجديدة” لمصرف لبنان إلى الفخّ عبر إيهام هؤلاء بتسهيل أمور التوافق على مشروع القانون ثمّ التذرّع بمادّة قانونية لا تقدّم أو تؤخّر في مسار إقرار القانون، ولا سيّما أنّ نصاب جلسة الحكومة كان مؤمّناً.
أكثر من ذلك، يوجّه فريق قانوني-سياسي اتّهامات مباشرة لرئيس الحكومة بالتنصّل من مسؤوليّاته، إذ إنّ المواد 88 و98 و90 و91 من قانون النقد والتسليف تشير بوضوح إلى صلاحية الحكومة طلب الاقتراض من مصرف لبنان (مع أنّ المبدأ وفق المادّة 90 أن لا يمنح المصرف المركزي قروضاً للقطاع العامّ). ولمّا كانت الحكومة صاحبة الطلب فإنّ هذا الأخير يجب أن يأتي عبر مشروع قانون صادر عنها لأنّها المعنيّة بردّ الأموال بناء على جدول زمني معيّن. هذه النقطة تحديداً كانت من ضمن الشروط التي وضعها حاكم المصرف المركزي بالوكالة وسيم منصوري من أجل السماح للحكومة بالاقتراض.
يُواجه منصوري تحديداً اتّهاماً صريحاً بأنّه “سعى إلى الوصول إلى رأس الحاكمية بأيّ ثمن مع علمه بأنّ الإدارة النقدية الجديدة محكومة سلفاً بالفشل، مثيراً استياء الرئيس نبيه برّي والمحيط القريب منه
باختصار، ميقاتي “ينفد” مرّة أخرى بريشه، وفق هذا الفريق، ملقياً المسؤولية بالكامل على كاهل مجلس النواب، قائلاً في مجالسه: “جميع مشاريع القوانين الإصلاحية موجودة في اللجان النيابية فلتقرّ في البرلمان، وأيّ تأخير في إقرار مشروع قانون الاستدانة من مصرف لبنان سيحمّلني كرئيس حكومة المسؤولية ويدفع مجلس النواب إلى القول “ما إجانا المشروع من الحكومة”… ما بدّي ياها تبجّ عندي”.
لكن من الصرح البطريركي في الديمان كان لميقاتي كلام آخر: “اتّصلت بمنصوري (صباح أمس)، ونحن نعمل بهدف أن تقرّ الخطة الإصلاحية”، مُستبدلاً عقد جلسة وزارية لإقرار مشروع قانون الاستدانة من مصرف لبنان بـ”جلسة حكومية في الديمان الثلاثاء المقبل للتأكيد على القيم الإنسانية والتمسّك بالوحدة الوطنية”.
ماذا سيفعل “حكّام المركزي”؟
انطلاقاً من هنا لا بدّ من العودة إلى السؤال المحوري: ماذا سيفعل “الحاكم” وسيم منصوري ونوابه بشير يقظان وسليم شاهين وألكسندر مراديان في حال إدارة البرلمان، بعد الحكومة، الظهر لأجندة عملهم وشروطهم ولسلّة القوانين الإصلاحية المطلوب إقرارها؟
في الوقائع، يُواجه منصوري تحديداً اتّهاماً صريحاً بأنّه “سعى إلى الوصول إلى رأس الحاكمية بأيّ ثمن مع علمه بأنّ الإدارة النقدية الجديدة محكومة سلفاً بالفشل، مثيراً استياء الرئيس نبيه برّي والمحيط القريب منه لأنّ الأخير كان يُفضّل أن يُقدّم منصوري استقالته ثمّ يسيّر الأعمال أو يتنحّى بالكامل”.
تنفي أوساط منصوري هذا الاتّهام مؤكّدة أنّ “هناك جدولاً زمنياً مدّته ستة أشهر يُفترض خلاله تنفيذ ما وعدت به الحكومة ومجلس النواب، وإذا لم يحصل ذلك فلن يقف نواب الحاكم مكتوفي الأيدي”، مشيرة إلى أنّ “المشكلة الكبرى أنّ رواتب القطاع العامّ مؤمّنة لهذا الشهر وفق منصّة صيرفة، لكن بعد آب لن يُصرف دولار واحد من دون تغطية تشريعية وفق ما يطالب به حاكم المركزي الذي ما يزال متمسّكاً برأيه في هذا الشأن. هذه مسؤولية الحكومة والبرلمان معاً، وإذا لم يحصل ذلك تتحمّل السلطة السياسية مباشرة المسؤولية عن حرمان 400 ألف عائلة من المأكل والمشرب”.
يضيف هؤلاء: “من يسعى إلى منصب حاكم للتنعّم بمكتسباته لا يفرض شروطاً وأجندة عمل أحرجت السلطة السياسية كما فعل وسيم منصوري، ولكان تابع السياسات نفسها لرياض سلامة، ولم يكن ليهدّد بالاستقالة من أجل فرض هذه الشروط. بمطلق الأحوال، المرحلة المقبلة كفيلة بتوضيح المشروع الحقيقي الذي من أجله قَبِل منصوري بتسلّم كرة نار الحاكمية وسط بيئة سياسية مصرفية مالية غير متعاونة”.