كثيرة هي التفسيرات التي تدفّقت بشأن البيان السعودي الذي، على خلاف بيانات الدول الأخرى، لم يحذّر الرعايا السعوديين في لبنان من الاقتراب من مناطق الاشتباكات فحسب، بل كان سبّاقاً في طلب مغادرتهم لبنان فوراً. كانت بعثات أجنبية قد سرّبت قبل ذلك تعاميم داخلية تنصح بتوخّي الحذر، غير أنّ تطوّرات مخيّم عين الحلوة اضطرّت سفارات عديدة إلى رفع مستوى التحذير إلى أشكال علنية.
قراءة ما بين السطور
تعترف مصادر سعودية أنّ لبيان المملكة حيثيّات خاصّة استدعت “إخلاء” لبنان من السعوديين على الرغم من قلّة أعدادهم في البلد. وعلى الرغم من أنّ المصادر لا تفصح عن الحيثيات المباشرة وتحيل الأمر إلى “أسباب أمنيّة”، فإنّ جهات في الرياض نصحت بالقراءة ما بين السطور وتأمُّل المشهدين الإقليمي والدولي بدقّة.
وفق الحدث وخلفيّاته، فإنّ لبنان لم يتوقّف عن كونه ميداناً مفتوحاً لتبادل الرسائل، بما فيها تلك الجديدة أو المتوقّعة. ومع أنّ مصادر أمنيّة لبنانية وفلسطينية أكّدت أنّ ما جرى في مخيّم عين الحلوة لم ولن يتجاوز حدود المخيّم، غير أنّه يُستنتج من الموقف السعودي أنّ الأمر لا يتعلّق بحدث المخيّم فقط، خصوصاً أنّ البيان السعودي صدر بعد أكثر من 48 ساعة على قرار وقف إطلاق النار ووقف الاشتباكات في تلك المنطقة.
تعترف مصادر سعودية أنّ لبيان المملكة حيثيّات خاصّة استدعت “إخلاء” لبنان من السعوديين على الرغم من قلّة أعدادهم في البلد
تنصح بعض المصادر بمراقبة ما يصدر في لبنان عن منابر قريبة من الحزب من تحوُّلٍ في المواقف تجاه السعودية ودول الخليج. ولئن ما زال الحزب ملتزماً رسمياً (وربّما بضيق وعلى مضض) بمخرجات اتفاق بكين بين السعودية وإيران الذي تمّ في 10 آذار الماضي لجهة وقف الحملات التي درج الحزب على شنّها ضدّ الرياض، إلا أنّ شخصيات سياسية وناشطين إعلاميين يتحرّكون وفق مزاج الحزب بدأوا يرسلون سهاماً تحمّل المملكة والخليج مسؤولية الأزمة الاقتصادية والرئاسية في لبنان.
تلفت المصادر إلى إعلان السفير الإيراني في الرياض، علي رضا عنايتي، أنّ السعودية قد أجّلت فتح سفارتها في طهران “إلى وقت مناسب”. وعلى الرغم ممّا يفترض أن يكشفه هذا الإعلان، إضافة إلى أنباء عن وقف أعمال ترميم السفارة السعودية في دمشق، من تعكّر روح اتفاق بكين، غير أنّ اللهجة الرسمية السعودية والإيرانية بقيت محافظة على لغة لا توحي بانهيار رسمي للأجواء التي أشاعها الاتفاق الذي أشرفت الصين على ولادته.
بيروت ساحة للتعبير
ما لا يمكن الإفصاح عنه في طهران والرياض من السهل التعبير عنه في بيروت وداخل الأراضي اللبنانية. وإذا ما اقتصرت التعبيرات في دوائر الحزب على الهمس الخافت، فإنّ لبنان هو المكان المرشّح لإرسال رسائل إيرانية ساخنة إلى السعودية إذا ما استدعى التدهور في ملفّات النزاع ذلك. ولئن تدفع طهران بمؤشّرات إلى الرياض بشأن قدرتها على التهويل في ملفّ اليمن وحقل الدرّة السعودي الكويتي وحتى تعثّر ترسيم الحدود بين العراق والكويت، فإنّ تعطّل التعامل مع “الملحق السوري” في اتفاق بكين مناسبة لتعويم أخطار أمنيّة ضدّ مصالح السعودية في لبنان.
لا يمثّل بيان التحذير السعودي خروجاً عن المألوف أو ما اعتمدته المملكة في السنوات الأخيرة للتعامل مع لبنان. لا بل إنّ سطور البيان تردع تطبيعاً مقنّعاً (قد يوحي به توافد مواطنين سعوديين إلى لبنان) مع “أمر واقع” ترفض الرياض القبول به والتعامل معه. وإذا ما جاهر الأمين العام للحزب قبل أشهر بالعتب على السعودية لـ “عدم إنقاذ” لبنان، فإنّ أحد حلفاء الحزب “غرّد” قبل أيام شاتماً الخليج في هذا الصدد، فيما تحدّث ناشط إعلامي قريب من الحزب في تغريدة عن “الشوق إلى المسيّرات المباركة”. يكشف الأمر الأجواء الجديدة الموحى بها لاستعادة اللهجة العدائية ضدّ الرياض والخليجيين. والسلطات السعودية في تحذيرها لرعاياها إنّما تبعث برسائل إلى السعوديين تذكّر فيها بالسياسة المعتمدة لجهة عدم تشجيع زيارة لبنان في ظروفه السياسية الراهنة التي لا توفّر ضمانات أمنيّة لهم حتى لو أكّد رئيس الحكومة ووزير الداخلية في لبنان ذلك.
تنصح بعض المصادر بمراقبة ما يصدر في لبنان عن منابر قريبة من الحزب من تحوُّلٍ في المواقف تجاه السعودية ودول الخليج
تحذير أمنيّ بامتياز
التحذير السعودي، وفق بعض المعلومات، هو أمنيّ بامتياز وله حيثيات أمنيّة معيّنة لا تودّ الرياض الكشف عنها. تقول مصادر مطّلعة في الرياض إنّ التحذير موضعي مؤقّت وليست له أيّة مفاعيل سياسية تزيد عمّا هو معروف ومعلن في سياسة المملكة حيال لبنان، بما في ذلك مشاركتها الحيوية في المشاورات الإقليمية الدولية في باريس وفي الدوحة التي شهدت أخيراً اجتماعاً خماسياً بين ممثّلين عن الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومصر وقطر. وتؤكّد المصادر أنّ التحذير الذي جاء سابقاً على خلفية التوتّرات الأمنية في بعض مناطق لبنان (عين إبل والكحّالة وغيرهما) لم يقُم على معلومات مسبقة في هذا الشأن.
تضيف المصادر أنّ التحذير لا يؤثّر بتاتاً على أنشطة السفير السعودي في بيروت وليد بخاري أو على خططه في التواصل مع الحكومة اللبنانية والتيارات والفعّاليات السياسية في البلد أو على حجم الطاقم الدبلوماسي العامل في السفارة. وتقول المصادر إنّ التحذير السعودي صدر بناء على معلومات و”تقدير موقف”، وكان هدفه حماية المواطنين السعوديين لا إثارة أيّ قلق داخل لبنان. وتضيف أنّ تبادلاً روتينياً للمعلومات الأمنيّة داخل دول مجلس التعاون الخليجي كان وراء صدور بيانات تحذيرية خليجية متعدّدة المستويات من الدول الخليجية كافّة.