جاء بيان الحزب مُحرِجاً للتيار الوطني الحرّ بسبب اتّهامه أهالي الكحّالة بالميليشيات. بالمقابل لم يرُق للحزب استخدام رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في معرض تعليقه على الحادثة تعبير “قصور” الذي شمل به الجهتين والذي وجد فيه التيار مخرجاً لإحراجه أمام جمهوره.
لم يكن عابراً كلامُ باسيل عبر منصّة إكس الذي قال فيه: “يلّي صار له دلالته الكبيرة (…) ويدلّ على أهميّة أن تكون المقاومة محتضنة من الشعب اللبناني، وإلّا بتفقد مناعتها وقوّتها. بيحمي لها ظهرها شعب مش شخص. الدلالة كبيرة بأنّه ما بيكفي يكون في وحدة شيعية، على أهمّيتها، حتى المقاومة تكون بخير والبلد بخير، الوحدة الوطنية بتبقى أكبر وأكتر مناعة”. بهذه العبارات لخّص باسيل واقع حال المسيحيين للحزب. قال له بما معناه إنّ الوحدة الشيعية لا تعوّض عن غياب المظلّة المسيحية، وإنّ شخص سليمان فرنجية وحده وإن كان مسيحياً لن يكون ضمانة له ولسلاحه، وإنّ قوتك الإقليمية وإن تعاظمت لن تعوّض الحاجة إلى الوحدة الوطنية حول مفهوم المقاومة والسلاح.
مظلّة على المحكّ
أظهرت حادثة الكحّالة مشهداً يثبت بالعين المجرّدة لخصوم الحزب كيف أنّ مظلّته المسيحية صارت على المحكّ وأنّه بات وحيداً فريداً إلّا من تضامن القلّة القليلة.
توصيف غير مصيب بالكامل وإن لم يخلُ من الواقعية في مكان ما. فالكحّالة لم تكن حالة فريدة متى عدنا بالذاكرة إلى حاصبيا وغيرها من المحطّات التي استُسهل فيها الهجوم على المقاومة والنيل من صورتها معنوياً، وهو ما يجعل كرة الحديث عن فقدان الحزب لمظلّة التأييد في الشارع المسيحي تكبر، ولا سيّما في ضوء خلافاته الأخيرة مع التيار الوطني الحرّ.
ربّ قائل إنّ علاقة الحزب هذه مع الجمهور المسيحي كانت سياسية أكثر منها واقعية بدليل أنّ أيّ خلاف مع التيار كان يحوّل مواقع التواصل الاجتماعي إلى منصّات هجوم متبادل بين الطرفين. في الوجدان المسيحي لم يلقَ الحزب تقبّلاً كذاك الذي تمّ تخريجه في السياسة، لكنّ مصادر الجانبين تثبت بالوقائع أنّ التيار الوطني الحر حقّق للحزب حضوراً واسعاً وتأييداً في الشارع المسيحي قلّ نظيره في فترة من الفترات، ولا سيّما بعد حرب تموز وما تلاها وصولاً إلى الحرب في سوريا وما بينهما، بفضل تفاهم مار مخايل والانفتاح الذي ساد بين الحليفين.
لاحقاً تسبّب تدهور العلاقة بين الحزب والتيار بأزمة انعكست على جمهور الفريقين حتى بات يمكن الاستنتاج أنّ الحزب فقد تلك المظلّة المسيحية التي حمته وحقّقت له حضوراً وطنياً على كامل الأراضي اللبنانية لم تعوّضه تحالفاته مع قوى مسيحية أخرى كتيّار المردة وآخرين.
محطّة للتأمّل
شكّلت حادثة الكحّالة محطّة للتأمّل في واقع الحزب على الساحة المسيحية، ومن وجهة نظر حليفه الأقرب يفترض أن يكون الحزب قد لمس وفهم حجم الهجمة عليه وأن ليس بمقدوره أن يختار عن المسيحيين مرشّحهم.
لكنّ هذا وإن حصل لا يجعل التيار مؤيّداً لفكرة نزع الغطاء المسيحي عن المقاومة والحزب “لم ينزع عن الحزب الغطاء المسيحي بل بات منزوع الغطاء المسيحي عن الفهم الخاصّ للحزب في موضوعين: إنّ السلاح يحمي نفسه من دون احتضان شعبي، وإنّ السير على عكس إرادة المسيحيين غير ممكن”. كان يفترض بالحزب أن يلاقي التيار إلى منتصف الطريق بعدما هيّأ الأرضية للتفاهم لأنّ التفاهم أهمّ من شخص مرشّح رئاسي، ومع ذلك “ليس صحيحاً أنّه بات ملفوظاً من المسيحيين بدليل تغريدة الرئيس ميشال عون التي كان غرضها قطع الطريق على المصطادين بالماء العكر”.
يرفض الحزب التماهي مع فرضيّة فقدانه التأييد على الساحة المسيحية. في دلالته لا يمكن طرح مثل هذا السؤال قبل استعراض مجمل التطوّرات المحيطة من جهة الحزب والآخرين. من جهته ما يزال على الوتيره ذاتها في العلاقة مع المسيحيين والتضحيات التي قدّمها لهم، وتحديداً للتيار الوطني الحر.
لا ينكر الحزب ضمناً وجود انقسامات هائلة على المستوى المسيحي يتمّ استثمارها في الشارع المسيحي. منذ تفاهمه مع التيار، أي مع الجانب الوازن والأكبر من المسيحيين، كان الهدف الحدّ من نفوذ الساعين إلى تغيير المعادلات. هؤلاء لطالما لعبوا على وتر تغيير الظروف والمستجدّات وشنّوا حملات تشويه إعلامية لصورة الحزب ودوره. هذا التجييش كان سبباً في تكبير حجم حادثة الكحّالة وتوتير الأجواء.
لطاما أجرى الحزب تقويماً لعلاقته مع المسيحيين: “لمسنا تراجعاً ومحطّات اختلاف في السياسة انعكست على الجمهورين، لكن نعرف حجم الاستثمار الخارجي، ولذا كنّا حريصين على عدم سحب يدنا من يد التيار”. وفي تقديره أنّه لم يخسر المظلّة بل يحتاج إلى تثبيت فعّاليات التفاهم مع الشارع المسيحي. يتفهّم أنّ حليفه لم يستوعب أنّه ينتظر منه أموراً لا يقدر عليها ولو أنّه في مفاصل كثيرة كان يمنحه الأولوية على غيره. يتّهم الحزب الأميركيين وحلفاءهم في الداخل بضرب تلك العلاقة والنيل منها في الشارع المسيحي واللعب على وتر العلاقة مع المسيحيين. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ كلّ المحطات الماضية تجعل من غير الممكن البناء على محطّة حصلت قضاء وقدراً وعلى تفاعلاتها، وهو ما يستوجب مزيداً من ترتيب العلاقة بعيداً عن التوتّرات.
هل سيشكّل كوع الكحّالة منعطفاً للحزب لتصحيح الكثير من الأمور؟ وبالمقابل يسعى التيار إلى تقليص حجم الامتعاض ومعالجة الأمور كي لا تتحوّل الحادثة إلى خلاف طائفي. على ضفّة العلاقة بين الحزب والتيار يقارن طرف ثالث تراجع حضور الحزب وتأييده على الساحة المسيحية بفائض القوة الذي يجب أن يحاذر الحزب من استخدامه في الداخل ومن تحويل الخلاف من خلاف مبدئي إلى خلاف طائفي بالتركيز على أنّ جنوده دافعوا عن مسيحيّي معلولا لتكون الخلاصة أنّ توازن القوّة مع إسرائيل يفترض دوزنته في الداخل بالتواضع والتحلّي بالمسؤولية، فالمقاومة هي ضدّ إسرائيل ولحماية لبنان الوطن النهائي للجميع الذي يفترض أن يعيش الجميع سواسية تحت سمائه من ناحية الحقوق والواجبات وعلى كلّ الصعد، وليلتقي مع ما ختم به باسيل رسالته للحزب: “التواصل بقلب البلد أهمّ بكتير من المحاور والممرّات والمعابر خارجه”. وقابلته مصادر مطّلعة على أجواء الحزب بالقول إنّ ما حصل لن يؤثّر على إعادة مدّ جسور التواصل مع التيار وتعميق العلاقة، وإنّ الحزب في وارد تمتين علاقته مسيحياً مع التيار وغيره من القوى السياسية بما يعدّ تسليماً بأنّ أيّ نجاح وقوة إقليمية لن تكتمل إلا بوجود حماية شعبية متنوّعة من الداخل.