مدقّق حسابات سلامة: لا أعرف… لا أعلم… لا أتذكّر

على مدى سنوات طويلة، لم تعثر «شركة سمعان غلام وشركاهم للمحاسبة والتدقيق» التي اعتمدتها معظم المصارف للتدقيق في حساباتها، على أي «غلطة» في عمل المصارف أو في ميزانياتها، رغم مقامرة هذه الأخيرة بأموال المودعين خلافاً للقانون. «بروفيل» كهذا شجّع حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، في أيلول 2021، على اختيار الشركة للتدقيق في حساباته الشخصية بين عامي 2015 و2021، لـ«دحض الشائعات» حول اختلاسه أموالاً عامة بهدف «النيل منه ومن كرامته». وبالفعل، لم تخيّب «سمعان غلام» ظنون سلامة. ففي شهر واحد فقط، أنهت المهمة التي كلّفها بها بـ«نجاح»، فبصمت على «نزاهته» ولم تجد في عمله وأعمال شركائه ما يثير الريبة أو حتى يستحق التوقف عنده، مع أن روائح الفضائح كانت تزكم الأنوف من لبنان إلى أوروبا. في أيار الماضي، مثَل المدير التنفيذي في الشركة أنطوان غلام أمام الوفد القضائي الأوروبي الذي زار لبنان لمتابعة ملف الجرائم المالية لسلامة، وأقرّ أمام المحققين بأن التقرير الذي أعدّه حول حسابات الحاكم «ليس تدقيقاً»، ولا يتمتع بمعايير دولية، معترفاً بأن «التدقيق» الذي أجرته شركته تم وفق خريطة طريقٍ وضعها سلامة بنفسه، هدفها الأساسيّ «بيان أن الأموال التي دخلت إلى حساب رياض سلامة لم تكن أموالاً من مصرف لبنان». عملياً، بيّنت التحقيقات الأوروبية أن غلام أدى دور «شاهد زور»، ما يطعن في صدقية شركته ومهنيتها بعدما استخدمها لتغطية ارتكابات الحاكم ومعظم المصارف اللبنانية

(هيثم الموسوي)

في جلسة الاستماع إليه أمام الوفد القضائي الأوروبي، في 2 أيار الماضي، أقرّ أنطوان غلام، المدير التنفيذي في «شركة سمعان غلام وشركاهم للمحاسبة والتدقيق»، بأن ما قامت به شركته من «تدقيق لحسابات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة» لم يكن تدقيقاً حقيقياً، بل «إجراءات متفق عليها بموجب اتفاقية تسمّى كتاب التزام (Engagement)»، معترفاً كذلك بأن التقرير الذي أعدّته الشركة لم يعتمد معايير دولية. علماً أن التذرع بـ«كتاب الالتزام» حجة مردودة، لمعرفة الشركة مسبقاً، عند إعداد تقريرها، بأن سلامة موضع تحقيقات في لبنان وعدد من الدول الأوروبية بجرائم تبييض أموال واختلاس وسوء استخدام للسلطة. وبالتالي، إن مجرد الموافقة على نص محدّد ومتفق عليه يُدين الشركة ويجعل كل تقاريرها المحاسباتية على مدى الأعوام السابقة موضع تشكيك. فالشركة، بموافقتها على إجراء التدقيق وفقاً لشروط وضعها سلامة، تكون قد ساعدت الحاكم المتهم في تبديد أموال المودعين وإخفاء مخالفاته واستخدامه للمال العام لمصالح شخصية وعائلية.
الشروط التي وضعها سلامة على الشركة أربعة، هي: 1) الاطلاع على كشوفات يزودها سلامة بأرقامها بنفسه، 2) الاطلاع على عملية واحدة محددة مع بنك عوده، 3) الاطلاع على بعض حساباته الشخصية وليس جميعها، 4) الاطلاع على حسابات أربع شركات خارج لبنان.
الغريب أن مديراً تنفيذياً شغل مناصب عدة في التدقيق المحاسبي، ارتضى العمل كمبتدئ أو أن يكون أداة لدى سلامة عبر توقيع اتفاقية نصّ بندها الأول، كما يقول غلام نفسه، على «بيان أن الأموال التي دخلت إلى حساب رياض سلامة لم تكن أموالاً من مصرف لبنان». ولدى سؤاله عما إذا كان تقريره يشكل إجابة حاسمة على هذا البند، أجاب بـ«لا».

غامر غلام بسمعة شركته ووضع نفسه في دائرة الشكّ، ما أدى إلى استدعائه إلى التحقيق، مقابل «200 ألف دولار» على ما أدلى به في إفادته. ونفى علمه بغرض التقرير ووجهة استخدامه. إلا أن الأهم أنه نفى أن يكون قد فحص المستندات المقدمة إليه قبل المهمة، ما يطرح علامات استفهام كثيرة حول الشركة وصدقيتها ومدى مهنيّتها.

المستندات التي زوّدنا بها سلامة غير كافية لإجراء تدقيق

تلميذ سلامة النجيب
في التحقيق الذي اطلعت عليه «الأخبار»، بدا مريباً أن يكون وكيل سلامة وابن شقيقته، مروان عيسى الخوري، هو من وقّع العقد مع «شركة سمعان غلام» بالنيابة عن الحاكم، مع أن الأخير كان موجوداً أثناء التوقيع. وهو أبلغ القضاة أنه لم يسأل عن سبب ذلك، ولا عن أي مستندات أخرى غير تلك التي زوّده بها الحاكم ليدقّق بها. لا بل بدا مستميتاً في الدفاع عن سلامة، إذ لم يُلحق مقتطفات من الحسابات بالتقرير مبرراً ذلك بالسرية المصرفية، وامتنع عن تزويد القضاة بأي حسابات للحاكم عندما طلبوا منه ذلك، بالحجة نفسها. وهو أقرّ بأنه لم يطلب أي تفاصيل أخرى خارج التواريخ التي حددها سلامة «طالما أنني لا أقوم بعملية تدقيق»، فحصر عمله في حسابَي الدولار واليورو، ولم يكلف نفسه عناء السؤال عن أي حسابات أخرى لسلامة في مصرف لبنان، بما فيها مثلاً حسابه بالجنيه الاسترليني أو الليرة اللبنانية، ولا عن حسابه الخاص في لوكسمبورغ. وهو ردّ على كل الأسئلة عمّا إذا كان يعرف بوجود حسابات أخرى لسلامة في مصرف لبنان أو في الخارج أو في دول أجنبية بعبارة: «لا أعرف».

تمحور الجزء الثاني من التحقيق حول التحويلات التي خرجت من حسابات الحاكم السابق لمصرف لبنان ومن حساب المقاصة وحساب العمولات. فقد جاء في التقرير الذي أعدّته الشركة أن «قسماً من الأموال المودعة في حساب العمولة مصدرها البنوك التجارية، أما القسم الآخر، فيأتي من اعتمادات غير محددة». ولدى سؤال غلام عما إذا اهتم بمعرفة سبب قيام المصارف بدفع الأموال إلى حساب مصرف لبنان، أجابها بأنها عبارة عن عمولة 3/8% لقاء عمليات شراء السندات، لكنه لم يضمّ إشعارات الشراء إلى تقريره بسبب كبر حجمها، مؤكداً أنه اطلع عليها في كشوفات الحساب. وأضاف إنه في كشف الحساب بين 2002 و2015، كانت التحويلات الصادرة عن المصارف اللبنانية تتضمن اسم المصرف المحوِّل في التحويل، وفي حال كان ناقصاً «كنت أطلب من مصرف لبنان إيداعي اسم المصرف وتاريخ الشراء، وبناءً عليهما نظّمت تقريري». مقابل هذه «الدقة»، لم يطلب غلام، مثلاً، الاطلاع على قوائم سندات الخزينة واليوروبوند التي تم شراؤها أو مطابقة المدفوعات مع تعاميم المجلس المركزي، لأنها «لم تكن ضمن المهمة».

«أنا مدقق… لكن لا أعرف»
قد يكون ما سبق قابلاً للتصديق رغم صعوبة «ابتلاعه»، إلا أن ما لا يُصدّق هو عدم سؤال مدقق محاسبي عن بنود في تقريره بملايين الدولارات، مع أن المفترض أن يكون كل عمله متمحوراً حول البحث في أدقّ التفاصيل والتدقيق في كل الأرقام. إذ يورد التقرير «سويفت» بـ 5 ملايين و889 ألف دولار، إلا أن غلام لم يطلب الاطلاع على المستندات الخاصة بالتحويل، مكتفياً فقط بذكر المبلغ! كما يرد في التقرير مبلغ مالي قدره 16.9 مليون دولار دُفع لمصلحة الخزينة اللبنانية كـ«رسوم»، قال غلام إنه لم يطّلع على المستندات الخاصة به ولم يتثبّت من صحته، بل اكتفى «بما هو وارد في كشف الحساب». ولدى سؤاله إن كان مبلغ الـ 16.9 مليون دولار هو من المال العام أو الخاص، أجاب: «لا أعرف». وعبارة «لا أعرف» أجاب بها أيضاً عن سؤال عما إذا كان يؤكد عبارة «رسوم سندات يوروبوند على الجمهورية اللبنانية». مراراً، حاولت القاضية أود بوريزي معرفة ما الذي يعرفه غلام بالضبط من كل ما خطّه في التقرير، فحاولت الاستفسار عما إذا كان قد طلب إيضاحات حول مبلغ 6 ملايين و200 ألف دولار مدفوع إلى المحامي ميشال تويني لقاء استشارات قانونية من حساب مقاصة في مصرف لبنان، فأجاب «لم أعد أذكر». وكيف يفسر أن يستعمل حساب مقاصة لدفع رسوم قانونية، وهل هذا جائز محاسبياً؟ قال: «لا أعرف». وأضاف: «لم أدقق في معنى عبارة أتعاب قانونية ولا إلى من ذهبت هذه الأتعاب».

كان واضحاً أن المحققين لم يقتنعوا بإجابات غلام ولا بمحاولته تقديم نفسه كمدقق مغمور لا يفقه في بديهيات المهنة، وهو ما دفع القاضية إلى تشديد لهجتها تجاهه. فسألته مجدداً: لكنك تمكنت من الاطلاع على حساب المقاصة بين عامَي 2002 و2015، وكذلك على حسابات شركة «فوري» المفتوحة لدى مصرف HSBC في سويسرا. من أعطاك هذا الحساب؟ فأجاب: «الحاكم». وكيف استطاع الحاكم الحصول على بيانات «فوري» المسجلة في جزر العذراء؟ قال: «لا أعرف».
ورداً على سؤال عن الفروقات بين ما دخل إلى حساب «فوري» وما حُوّل من مصرف لبنان، وهل لاحظ ذلك عامَي 2002 و2004 وما هو تفسيره؟ أجاب: «لا أذكر». وفي سؤال آخر: في 27/11/2007 ثبت أن هناك فروقات في حسابات كثيرة ومتعددة بين ما دخل إلى حساب «فوري» وما خرج من مصرف لبنان، فهل لاحظت ذلك وكيف تفسّره؟ فأجاب أيضاً: «لا أذكر». ورداً على سؤال حول حسم 200 ألف دولار في 7/8/2003، من حساب عملات لمصلحة خطار الياس حتي – فرع التباريس – وفقاً لتصريح من رياض سلامة، وكيف يفسّر هذه الدفعة؟ ردّ أيضاً: «لا أعرف. يجب مراجعة التقرير». وتوالت الأسئلة مع إجابة شبه واحدة: هل كانت تُحصّل عمولة صرف من معاملات بيع السندات (50 دولاراً عن كل عملية)؟ أجاب: «ليس ذلك من ضمن المهمات الموكلة إليّ ولم أراقب الأمر». هناك أربعة تحويلات من مصرف لبنان إلى «فوري» غير متأتية من حساب العمولات، فهل لديك تفسير؟ أجاب: «أعتقد أنني أوضحت ذلك في تقريري وسأزوّدكم بالمستندات الموجودة لديّ». كيف يمكنك وصف تعامل مصرف لبنان وبنك عوده (أبرز المستفيدين من الهندسات المالية وشريك سلامة ونجله ندي في بعض الشركات)؟ رد قائلاً: «تعامل عادي». ما سبق لا يبرّئ أنطوان غلام، بل يثير شبهات بتورطه مع سلامة إما تحت وطأة الضغط والابتزاز وإما لأنه أحد المستفيدين من «مكرمات» الحاكم، وخصوصاً أن شركته استخدمت سنوات طويلة لتغطية الموبقات التي ارتكبها مصرف لبنان والمصارف التجارية.

اشترط الحاكم الاطلاع على بعض حساباته الشخصية وليس جميعها

«تقريري غير صالح»
في ختام التحقيق، عادت الأسئلة لتتمحور حول سلامة. سألت القاضية عن امتلاك الحاكم السابق حسابات أخرى في مصرف لبنان غير التي أراد التدقيق فيها، فتمسّك غلام بالجواب نفسه: «لا أعرف». وعن دفع سلامة رواتب من حساباته الخاصة أشبه برشى، رفض الإجابة متذرّعاً بـ«السرية المصرفية». وتمسك غلام بالمهمة المحددة له في الاتفاقية للتنصل من مسؤولياته. فقد تبيّن، مثلاً، إيداع 3 ملايين يورو و206 ملايين دولار كشيكات في حساب سلامة، إلا أن الشركة المدققة لم تكلف نفسها عناء السؤال عن مصدر هذه الشيكات ولا طلب نسخ عنها. ألا يدخل ذلك ضمن مهمة إثبات إن كان المال الموجود في الحسابات عاماً أو خاصاً؟ كذلك الأمر بالنسبة إلى تحويل سريع أو «سويفت» بقيمة 15 مليون دولار، إذ لم يعمد إلى التحقق من الـ«سويفت» المقابل ولا تحديد مرسلي المبلغ. واللافت أن مبلغاً بقيمة 18 مليون دولار و1130 يورو بقي مجهولاً ولم يُجرَ تحليله. ولدى سؤاله عن سبب ذلك، ردّ غلام بأنه سيعود إلى التقرير ويزوّدها بالشروحات اللازمة. وعندما استفسرت إن كان قد حصل نقاش بينه وبين سلامة ووكيله مروان عيسى الخوري بشأن التقرير قبل إعداد النسخة النهائية، ردّ إيجاباً، مشيراً إلى جلسة بينهم استغرقت ساعة ونصف ساعة تخلّلها طرح خوري لبعض الأسئلة، نافياً أن يكون قد أجرى أيّ تعديل بعد ذلك. وعمّا إذا كانت هناك نسخة أخرى من التقرير؟ أجاب: «طلب مني الحاكم 10 نسخ واحتفظ بنسختي الخاصة، وقد أسلّمكم نسخة عنها بعد استشارة وكيلي القانوني». غير أن ذلك ليس وحده ما استرعى اهتمام الوفد الأوروبي، بل إجابة غلام بأنه بنى خلاصة تقريره كلها على أن سلامة لم يستخدم أي أموال عامة بالاستناد إلى كشوفات الحساب التي زوّده بها سلامة نفسه، ومن دون التأكد من أن هذه الحسابات لم تدخلها أموال من البنك المركزي بعد تجاهله كل التحويلات الداخلة إلى الحساب ومصدرها. ولعل أبلغ تقييم لتقرير غلام هو ما صرّح به غلام نفسه حول العمل الذي قام به، إذ سُئل: ما هي المستندات التي كان يمكن أن تطلبها لو أجريت تدقيقاً حقيقياً؟ أجاب: «لكان قد تغيّر الموضوع كلياً لناحية مقاربة العمل من الأساس». وهل كانت المستندات التي زوّدك بها رياض سلامة كافية لإجراء تدقيق؟ قال: «بالطبع لا»!

خبرة في التدقيق لأكثر من 30 عاماً

شركة BDO, Semaan, Gholam & co هي واحدٌ من مكاتب التدقيق الخارجي والمحاسبة المجازة للتدقيق في الحسابات المالية وميزانيات الشركات والمصارف، ويشغل فيها أنطون غلام (انتُخب عام 2008 نقيباً لخبراء المحاسبة المجازين في لبنان) منصب المدير التنفيذي، إلى جانب كونه شريكاً فيها منذ عام 1996، وممثّلها في كل ما يتعلق بالأعمال الخارجية. وقد صُنفت الشركة في أيلول 2018 من ضمن مكاتب التحقيق والمحاسبة المؤهّلة للقيام بمهام التدقيق الخارجي لحسابات المؤسسات والمرافق العامة التابعة للدولة اللبنانية، بموافقة وزير المال علي حسن خليل آنذاك. علماً أنها واحدة من أكبر الشركات في السوق المحلي ولها خبرة في التدقيق تفوق ثلاثين عاماً، ما جعلها واحدة من الشركات المعتمدة من المصارف التجارية اللبنانية إلى جانب الشركات العالمية أمثال «ديلويت» و«ارنست اند يونغ» وKPMG. ويفترض بالمصارف، وفق القانون، أن تعتمد شركات للتدقيق الخارجي في حساباتها وميزانيتها وأحد الموظّفين للقيام بالتدقيق الداخلي، على أن تتم المداورة بين الشركات. فلا يحقّ للمصرف أن يتعاقد مع الشركة نفسها لأكثر من سنتين.
لكن ماذا يتضمّن التدقيق الخارجي؟ بهذا المعنى، تشمل مهام الشركة التدقيق في أرباح المصارف وخسائرها وأصولها وما إذا كانت صحيحة ومتناسبة مع الأرقام التي يقدّمها المصرف، كما تشمل التأكّد من التزام المصارف بالقوانين والمعايير الدولية، من دون أن يكون من مهامها التدقيق في مصدر الأموال وفي عمليات الشراء والبيع. لكن ذلك لا يعني أن هذه الشركات لا تعمل في بعض الأحيان بالتواطؤ مع المصارف لتلقينها أصول إخفاء الخسائر أو تقديم ميزانية خالية من الشوائب أو التستّر على عمليات تبييض أموال، وهو ما حصل فعلياً في الفترة التي سبقت الانهيار المالي في لبنان. علماً أن من واجب هذه الشركات، حتى لو كان الأمر خارج مهامها، التبليغ عن أي أعمال غير شرعية وقانونية وعن تعريض المصارف الودائعَ للمخاطر عبر زيادة حجم التوظيفات في مصرف لبنان بالعملات الأجنبية.

اترك تعليق