دخل ملف النزوح السوري إلى لبنان مرحلة معقّدة جداً مع موجة النزوح الجديدة التي لم تتبيّن أهدافها بعد، خصوصاً أنّ غالبية النازحين الجُدد من الفئة العمرية الشابة. فإضافةً إلى الهرب من الأزمة الاقتصادية في سوريا إلى لبنان حيث تُقدّم مساعدات أممية للنازحين، وهدف الهجرة غير الشرعية عبر المياه اللبنانية، تتخوّف جهات سياسية وأمنية عدة من أهداف أمنية أو سياسية لهذا النزوح، تحضيراً لتنفيذ أجندة ما في مرحلة زمنية قريبة أو بعيدة. وذلك في وقتٍ لا تتمكّن الدولة اللبنانية من فرض إيقاعها على هذا الملفّ وضبطه، بحيث تلقي بكلّ ثقله على الأجهزة العسكرية والأمنية، لا سيّما منها الجيش اللبناني الذي يواجه النزوح على أكثر من جبهة، فيجهد لضبط الحدود وإعادة الآلاف ممّن يحاولون التسلّل إلى لبنان بالتوازي مع عمليات الدهم والتفتيش في مخيّمات النزوح حيث يضبط أنواعاً مختلفة من الأسلحة، إضافةً إلى عملية ترحيل من لا يحوزون الأوراق الشرعية اللازمة أو دخلوا إلى لبنان بطريقة غير شرعية.
ad
لا مواجهة لـ»الفيتو» الخارجي
التداعيات الناتجة عن النزوح السوري وعدم تمكّن الدولة من معالجته أو التوصّل إلى مقاربة واضحة ونهائية مع المجتمع الدولي والمنظمات المعنية، عوامل تزيد خطورة هذا الملف، والتي لم تعد محصورة بكلفة هذا النزوح على لبنان واللبنانيين، وهو يشكّل على سبيل المثال أحد أسباب الضغط على الليرة، نظراً إلى النسبة الكبيرة من الاستيراد لتغطية احتياجات أكثر من مليوني سوري في لبنان إضافةً إلى سائر السكان.
أبواب مخاطر كثيرة تُفتح على لبنان من بوابة النزوح، من التغيير الديموغرافي إلى الولادات والتملُّك وعدم امتلاك الدولة «داتا» خاصة كاملة عن النزوح، علماً أنّ هذا الأمر مطروح ومُقرّ منذ حكومة الرئيس حسان دياب وكان عمل على خطة عودة النازحين التي تشمل امتلاك الداتا وتكوينها، الوزير الأسبق صالح الغريب في حكومة الرئيس سعد الحريري الثانية في عهد الرئيس ميشال عون.
علاقة الدولة اللبنانية بالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) تشهد توتّرات دائمة، ويتّهم معظم المسؤولين المفوضية بتشجيع النازحين على البقاء في لبنان وبأنّها «فاتحة على حسابها» من دون التزام قرارات الدولة. على الرغم من ذلك لم تجرؤ أي حكومة على اتخاذ أي إجراء أو قرار ضدّ عمل المفوّضية أو أي منظمة في لبنان في ملف النازحين، وذلك بحسب مصادر عاملة على هذا الملف، لأنّ أحداً لا يجرؤ على مخالفة الإرادة الخارجية و»الفيتو» الأميركي- الأوروبي على عودة النازحين.
المفوّضية: مسألة معقّدة
«الداتا» تشكّل أبرز مواضيع التجاذب بين الدولة والمفوضية، والذي يبدو أنّه لم ينتهِ مع الاتفاق الذي أعلن وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال عبد الله بو حبيب، في 8 آب الماضي، عن التوصل إليه مع المفوضية، والذي يقضي بتسليم المفوضية الداتا أو البيانات التابعة لجميع النازحين السوريين المتواجدين على الأراضي اللبنانية. ورغم أنّ بو حبيب اعتبر أنّ هذا الاتفاق ختام لمسار طويل من التفاوض بدأ منذ نحو عام، يبدو أنّ مرحلة المفاوضات لم تنتهِ والاتفاق لم يُنجز بعد.
بحسب مصادر مسؤولة، إنّ المفوضية لم تسلّم «داتا» النازحين إلى الدولة بعد. وهناك جهات مسؤولة أخرى تبدي اعتقادها بأنّ المفوضية لن تسلّمها كاملةً وبالمعلومات المطلوبة من لبنان.
مصادر الـUNHCR توضح أنّ «أي مناقشات حول مشاركة البيانات الشخصية وفقاً للمعايير العالمية لحماية البيانات مسألة معقدة». وتقول: «نحن ندرك المصلحة المشروعة للحكومة في معرفة من هم على أراضيها»، لافتةً إلى أنّ المفوضية «توصّلت بالفعل إلى اتفاق مع الحكومة لمشاركة البيانات الشخصية الأساسية وفقاً للمعايير العالمية لحماية البيانات». وتؤكد أنّ المفوضية «تشارك بالفعل البيانات مع الحكومة اللبنانية لأغراضٍ مختلفة، وذلك بموجب الاتفاقات القائمة، بما في ذلك بهدف تسهيل إعادة التوطين في دول ثالثة. ويعتمد الاتفاق الأخير على تعاون المفوضية الطويل الأمد مع الحكومة».
وتذكّر أنّه في الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه، التزمت الحكومة اللبنانية بعدم استخدام أي بيانات تتمّ مشاركتها لأغراض تتعارض مع القانون الدولي أو معايير حماية البيانات والخصوصية، وأكدت التزامها مبدأ عدم الإعادة القسرية والتزاماتها بموجب القانون الدولي والمحلي. ويشير الاتفاق أيضاً إلى أن دور الحماية والمساعدة الذي تقوم به المفوضية في لبنان سيستمرّ.
لكن ماذا عن «الداتا» الكاملة التي يطالب بها لبنان والتي تقول مصادر مسؤولة إنّ المفوّضية لم تتسلّمها بعد؟
تكتفي مصادر المفوّضية بالقول: «يُجرى حالياً مزيد من المناقشات بشأن طرق التنفيذ»، مؤكدةً أنّ المفوّضية «لا تؤخّر هذه العملية، بل على العكس من ذلك، لكنّها مسألة معقّدة تتطلّب مناقشات فنيّة مُفصَّلة».
خطوات أساسية
جهات عدة تعتبر أن «ما في اليد حيلة» تجاه ملف النزوح المرتبط بوضوح بالحلّ السياسي الشامل في سوريا وبالتواصل والاتفاق بين المجتمع الدولي وسوريا. على الرغم من ذلك لا يُمكن أن يقف لبنان متفرّجاً، ويجب عليه بالحدّ الأدنى التخفيف من حدّة النزوح بالإمكانات المتوفّرة. وبحسب مصادر عدة متقاطعة تعمل على ملف النزوح، لا حاجة لا إلى مزيد من الخطابات أو القرارات، خصوصاً أنّ هناك خطة سبق أن أقرّت ومقرّرات عدة على هذا المستوى، إنّما يجب البدء بالتنفيذ الذي تأخّر كثيراً، وذلك بالخطوات الآتية تدريجياً:
أولاً، إجبار المنظمات الدولية على تسليم «داتا» النزوح ثمّ استكمالها عبر مسح ميداني تُكلّف به البلديات والأجهزة العسكرية والأمنية.
ثانياً، تصنيف النازحين بين نازح اقتصادي ونازح أمني- سياسي.
ثالثاً، إلزام المنظمات بتنوّعها باعتماد هذا التصنيف على مستوى المساعدات، بحيث يحصل النازح السياسي – الأمني على المساعدة فيما تُحجب عن النازح الاقتصادي، علماً أنّ 98 في المئة من النازحين هم نازحون اقتصاديون بحسب مصادر مطّلعة، فغالبية النازحين يبقون في لبنان لأسباب اقتصادية وليس لأنّ الوضع في سوريا غير آمن. وتشير هذه المصادر إلى «أنّنا كلّما تأخرنا في المعالجة يصعب الحلّ وتستفحل الأزمة، فعلى سبيل المثال إنّ الوضع الاقتصادي في سوريا الآن أكثر صعوبة ممّا كان عليه منذ 3 أو 4 سنوات». وتسأل: لماذا سيعود النازح إلى سوريا طالما أنّ «يوميته» في لبنان أكثر ممّا قد يتقاضاه في سوريا، ولا يتكلّف على السكن في لبنان بوجود المخيمات، ولا يدفع ضرائب، ويحصل على مساعدات أمميّة؟
رابعاً، عدم التساهل في تطبيق قانون العمل.
وتشدّد هذه المصادر على أنّ النازح لن يعود إلى سوريا بلا ضغط. ولا يجب الاستخفاف بالموقف الداخلي الموحّد، غير أنّ القوى السياسية لا تتعامل مع النزوح على أنّه ملف وطني، بل لا تزال مقاربته منطلقة من المصلحة السياسية لكلّ طرف.