على صوت دوي المدافع والقذائف، وأمام مشاهد المجازر الإسرائيلية، وفي ظل حركة موفدين ورؤساء وديبلوماسيين سعياً لوقف الحرب.. يبقى واحد، حاضراً غائباً. حسن نصرالله. ربما هو الإسم الأكثر تداولاً في كل المنطقة ومحيطها. وهو الشخص الذي ينتظره كثيرون ليستمعوا لما سيقوله ويعلنه. ولذلك هو لا يظهر، ولا يريد أن يتفوه.
تحليلات كثيرة، يُمكن أن تُبنى حول الرجل. وتساؤلات أكثر تُطرح. أينه؟ كيف يقضي وقته؟ بماذا يفكّر؟ هل يشاهد محطات التلفزة؟ أم يقترب من الجبهة في الجنوب، أم يبقى في الضاحية؟ هل لأحد قادر على التواصل معه غير الذين يتواصلون بشكل يومي؟ أمام هول ما يجري، يبقى نصر الله شاغل الجميع، ليس في لبنان فحسب.
أثقال كثيرة
غيابه لا يخفي هالته. ولا تغيب معه أسئلة عنه وعما يفكّر، وما الذي يريد أن يفعله. وربما هذه أسئلة مطروحة عند اللبنانيين كما الإسرائيليين كما الأميركيين. وإن كان في غيابه تحرر من أعباء يحتاجها الحضور الإعلامي أو السياسي، إلا أنه لا يحرر من أثقال كثيرة، وهموم أكبر. إنها لحظته، ولحظات لطالما تحدّث عنها وأورد بعضاً من صفحاتها ومشاهدها، وهو الذي لطالما توعّد بالعبور، واقتحام الجليل، ونقل المعركة إلى داخل الأراضي المحتلة. وهي لحظته التي تتخطى بالنسبة إليه مشروعاً بذل حياته على طريقه، واستشهد نجله على جبهاته. هو يطمح لما هو أبعد من ذلك، ويتصّل بمقارعة الأميركيين ومشروعهم في المنطقة.
هل تصله أسئلة تُطرح من هنا وهناك؟ ورسائل، وانتقادات؟ نصائح وهجمات يستمع إليها ويتعاطى معها؟ أم أن لديه ما يشغله وهو أهم؟ لربما كل ذلك يحضر في ذهنه. لكن أمام المشروع الكبير بالنسبة إليه، يغدو لبنان تفصيلاً، إذا ما تدحرجت المعركة على جغرافيا الإقليم، صحيح أنه يهتم بلبنان، وهو لا يريد توريطه أو استدراجه إلى الحرب. إذ يأخذ في الاعتبار الوضع الدقيق في الداخل، اقتصادياً، سياسياً، واجتماعياً، الى جانب واقع الانهيار. ولكن أيضاً في المقابل، لا تقتصر الحسابات على كل ما هو داخلي أو تفصيلي. فالمعركة وجودية بالنسبة إلى المحور. المحور الذي خاض حروباً من العراق، إلى سوريا ولبنان واليمن.
مقومات الصمود
هو بلا شك يتابع تفاصيل التفاصيل في مجريات المعركة، وفي مجريات الصراعات داخل إسرائيل، وماهية المواقف الأميركية ومراميها في ضوء الزيارات وإرسال حاملات الطائرات. لكنه في المقابل، إلى هذه اللحظة، يأخذ بالاعتبار مقومات الصمود اللبنانية ومقدرات الدولة. حتماً لا تغيب عن باله مواقف الآخرين، لا سيما معارضي الانجرار أو التورط، أو الذين يريدون لبنان معزولاً عن تطورات المنطقة. هذه كلها أحمال فوق أثقاله. وفي المقابل، يبقى اعتباره هو عدم التخلي الأبدي عن شراكته في المقاومة، عملياتها، خططها، أهدافها، ومستقبلها، من إيران إلى غزة.
يدير بدقة سياسته الردعية، مع صلابة ظهرت منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى. وصمت مطبق مدروس، له غاياته وخلفياته، في الحرب النفسية، وأن الحاجة للعمل لا للكلام، ولعدم فتح المجال لتأويلات وتداعيات وردود وردود مضادة. فهو لا يريد أن يبدو هادئاً أمام الإسرائيليين، ولا صاخباً بما يثير الفزع، ولا مهدداً بحرب قد لا يحتاج إليها كي يربح. وهي لعبة نفسية، هو أكثر من يتقنها، مع الأميركيين والإسرائيليين ومع غيرهم. هذا جزء من تكتيك الحرب. ما يجلعه صاحب القرار والكلمة الأخيرة في الحرب أو السلم، حتى أنه يترك كلامه لما بعد ما سيفعله الأميركيون أو الإسرائيليون أو غيرهم. ما يؤهله لأن يكون المنتصر السياسي الأول في لبنان وأبعد.
الإدارة الدبلوماسية لبرّي
ووسط انشغالاته، لا بد من منح نبيه برّي كل المساحة لإدارة المعركة السياسية والديبلوماسية، ليكون متراقصاً على حبال لقاءات ومواقف، بكل ما للحزب من ثقة به. فيكون برّي صوت حزب الله وصوت الدولة، وصوت نفسه كـ”وسيط” كما وصفه الأميركيون، فيلعب دور الديبلوماسي الأول، وهو الدور الذي لعبه سابقاً رفيق الحريري عن حزب الله وعن سوريا. وكأن برّي في هذه اللحظة يخوض، الدور الذي لعبه إلى جانب فؤاد السنيورة في مراحل حرب تموز 2006 وصولاً إلى اتفاق القرار 1701 ووقف العمليات العسكرية. وليبرهن برّي وجهة النظر الأميركية، التي لا يمكنها أن تجد طريقاً أو أذناً صاغية لفرض عقوبات عليه.
رغم ذلك، يبقى نصرالله هو بوصلة الكثيرين، وحاجتهم ربما، خصوماً وأعداء وحلفاء. جميعهم يريده أن يبرز، إما ليطمئن وإما لينخرط أكثر. فيما الرجل يدير وقته بإتقان. وهو الذي يريد أن يختاره، كما كان يقول دوماً. إنه هو من يحدد توقيت المعركة، ولا يُستدرج إلى توقيت الإسرائيلي أو غيره.
لحظة خروجه أو إطلالته، ستكون مرتبطة بأمر من إثنين، كلاهما لا ينفصل عن الهالة، إما لإعلان انتصار، أو لإعلان الحرب ما بعد وقوعها وتوجيه إحدى ضرباتها القاصمة.