سلوك المستهلك أثناء الأزمات يركّز على تأمين الغذاء والحاجات الضرورية فقط، ويتجاهل باقي السلع. ورغم أن النمط العام لهذا السلوك يشمل كل المناطق، إلا أنه يتفاوت في وتيرته بين منطقة وأخرى. ففي القرى الجنوبية الحدودية، يحاول أصحاب المصالح الوقوف على رأس عملهم، متحدّين الظروف الأمنية الصعبة والمواجهات المفتوحة مع العدو الإسرائيلي خلف الشريط، لكنهم لا يجدون سوقاً للبيع. بعض القرى على خط النار فرغت من ناسها الذين نزحوا إلى مناطق أكثر أمناً. في ميس الجبل، مثلاً، أقفل علي مؤسسته التجارية لأن «حالة من الشلل تصيب البلدة والبلدات المجاورة، ومن بقيَ من أهلها لا يفكّر في شراء كماليات العيش في هذا الوقت». يتردّد في إرسال طلبات ترِده إلى الشمال لأن «لا أعرف إن كانت ستصل إلى أصحابها بأمان». حاله حال أصحاب المحال الأخرى، حتى تلك المخصّصة لبيع المواد الغذائية والخُضار معظمها التي أُقفل معظمها.
على الخطّ الثاني من البلدات الأبعد عن الشريط الحدودي، ثمة وتيرة مختلفة من النزوح، ومعها تختلف وتيرة النمط الاستهلاكي. هناك تبدو حركة النزوح مؤقّتة، تغادر الناس بيوتها ثم تعود إليها أكثر من مرة في الأسبوع الواحد أحياناً، ربطاً بحدّة المواجهات. طبعاً، ينعكس ذلك على الحياة الاقتصادية التي تعطّلت بصورة شبه كاملة، فيما تبقى بعض محال المواد الغذائية تعمل لتلبّي حاجة من بقي من الأهالي الصامدين. في الخيام، مثلاً، لا تزال إحدى السوبرماركات مفتوحة، لكن وفقاً لصاحبها «تراجع المبيع 70% بالحد الأدنى بعدما مررنا بمدة انتعاش مع دولرة السلع، ويرتكز البيع اليوم على السلع الغذائية والتموينية، أما عدا ذلك، فالطلب معدوم».
«بيعنا تراجع بحدود 90%، حالنا حال باقي التجار، فنحن في حالة حرب ولسنا بانتظار أن تندلع» تقول صاحبة محلّ لبيع الألبسة في سوق النبطية. الأمر نفسه يحدث في أسواق العاصمة وسائر المناطق رغم الاستقرار الأمني فيها. فالتوتر الذي تشهده الجبهة الجنوبية، والتهديدات بإشعال المنطقة، وإنذارات السفارات لرعاياها بضرورة مغادرة الأراضي اللبنانية فوراً، وقرار شركة طيران الشرق الأوسط خفض 80% من رحلاتها… كلّها عوامل أسهمت في «هلع» المغتربين والسيّاح الأجانب وخلق هذا النمط الاستهلاكي.
90% من قطاع المطاعم والمقاهي أُصيب بالشلل
وفيما يبدو منطقياً تعطيل الحياة الاقتصادية حيث تقع المواجهات جنوباً، ثمة سؤال يتعلق بالانكفاء في المناطق الآمنة، إذ إنه وفقاً لرئيس نقابة القطاع طوني الرامي، فإن «ما بين 80% و90% من قطاع المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسيري أُصيب بالشلل بعد أحداث 7 تشرين الأول. نتفهّم أن تُراوح المواسم بين مدّ وجزر، لكن في أسوأ الحالات يتراجع العمل 50%، فيستعيد المستثمر الكلفة التشغيلية من دون أن يحقق أرباحاً، أما تراجعه 90%، فهذا يستنزفنا». ويشير الرامي إلى أن «الناس تنتظر لحظة اندلاع الحرب، وهي ليست بحالة تسمح بالاستجمام والتنزّه، بل تفضّل تخبئة قرشها الأبيض ليومها الأسود». ويتخوّف من «تفويت» موسم عيد الميلاد: «رغم أنه من المبكر الحديث عن الأمر، لكن لم يتصل أحد بعد للحجز والاستفادة من الأسعار المتاحة خلافاً لما كان يحدث سابقاً».
هذه المخاوف تفرض نفسها على قطاعات أخرى. أصحاب المحال التجارية «يتشمّسون» وفقاً لتوصيف صاحب محل لبيع الألبسة في الضاحية الجنوبية، لافتاً إلى تراجع مبيعاته أكثر من 50%. وسائقو الأجرة يشكون «فقدان الركاب، فالناس لا تتحرك إلا إلى عملها». ويقول صاحب «مؤسسة قباني لبيع الأدوات الكهربائية» زياد قباني: «هناك توقف شبه كامل للمبيعات، لأنّ الناس تؤجّل شراء براد أو غسالة أو وسائل التدفئة المعروضة بأسعار مشجعة. وإذا امتدّت المواجهات إلى بيروت، سنقفل المحل حتماً، وأفضّل في هذه الحال أن أترك الأموال في جيبي». من جهتها، تترقّب فاطمة، صاحبة مؤسسة للبيع «أون لاين» في طرابلس، الأوضاع قبل أن تطلب شحنتها من الخارج «ففي أي لحظة قد يتوقف النّقل الجوي».
تخزين الذهب
التطوّرات العسكرية المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط انعكست على الأسواق العالمية، ولا سيما أسعار الذهب. فقد ازداد سعر أونصة الذهب من 1830 دولار قبل عملية «طوفان الأقصى» إلى 1964 دولار، إذ يعمد المستثمرون إلى تخزين أموالهم في كميات من الذهب تحسّباً لأي تطوّرات، وهذا الأمر يشمل المقيمن في لبنان من الذين لديهم كميات من النقد الأجنبي يصعب حملها والهرب فيها. لكن وفقاً لنقيب تجار الذهب والمجوهرات في لبنان نعيم رزق، فإن حركة بيع الذهب المشغول وشرائه شبه معدومة: لدي ثلاثة محالّ، نادراً ما يدخلها أحد».