من اللحظة الأولى التي شنّت فيها اسرائيل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزّة، تحرّك الموفدون الأجانب في اتجاه لبنان، وعلى ألسنتهم جملة واحدة: «على لبنان ألّا يدخل طرفاً في هذه الحرب»، الاّ انّ احداً من هؤلاء وآخرهم آموس هوكشتاين، لم يقدّم ايّ ضمانة جدّية بألّا تبادر إسرائيل الى فتح حرب ضدّ لبنان!
غادر الموفدون، وبقيت قنوات التواصل مفتوحة بين واشنطن وبيروت بشكل يومي. قال الاميركيون انّ لبنان كان ولا يزال يشكّل اولوية بالنسبة الى الولايات المتحدة الاميركية، ولا يرغبون في أن تتوسّع دائرة التصعيد اليه. وصرّحوا باستيائهم البالغ من إطلاق «حزب الله» لعمليّاته ضدّ المواقع الإسرائيليّة، وأرادوا أن يُكبح جماحه على الفور، فقد كانوا قلقين جداً من أن يبادر الى دفع الامور الى تصعيد أكبر.
قيل للأميركيين: «لا أحد في لبنان راغب في الحرب او في الدفع نحو مواجهات اكبر واوسع، ما نريده هو ان يتوقف اطلاق النار في غزة فوراً، ومعه تتوقف تلقائياً العمليات العسكرية على الحدود الجنوبية، ولذلك لا داعي للقلق من ناحيتنا، بل عليكم ان تقلقوا من اسرائيل التي تسعى الى افتعال حرب مع لبنان لتورّطكم معها فيها، بدليل انّها خرجت على القواعد المعمول بها، وبدأت تتعمّد استهداف المدنيين، على ما حصل في مجزرة عيناتا وسقوط الشهيدات الاربع».
أخذ الاميركيون علماً بذلك، وتعهّدوا بإجراء كل ما يتطلّبه تجنّب الوقوع في هذا الخطأ على حدّ تعبيرهم. الاّ انّ المواجهات تصاعدت، ومن يدقّق في مجرى العمليات العسكرية على الحدود ووتيرتها المتسارعة صعوداً، يلاحظ تدرّج اسرائيل في تصعيدها نحو استهداف عمق البلدات الجنوبية، ومناطق في شمالي الليطاني بعيدة من منطقة العمليات. بما يشي بأنّ طبول الحرب الواسعة على الجبهة اللبنانية قد بدأت تقرع فعلاً.
كل المستويات اللبنانية؛ السياسية وغير السياسية، تستهول الحرب وتؤكّد انّها لا ترغب بها، وتشدّد على انّ لبنان لا يريد الانخراط فيها، الاّ أنّ السؤال الذي يفرض نفسه في هذه الأجواء: هل ستراوح الأمور على الجبهة الجنوبية على ما هي عليه من «توتر مضبوط» تحت سقف ما تُسمّى حرباً «منخفضة السقف»، ام انّ الحرب العالية السقف حتمية وباتت مسألة وقت قصير، والوقائع العسكرية المتدحرجة على الحدود والتي توسعت في الايام الأخيرة لتطال عمق البلدات ومناطق لبنانية بعيدة من الحدود، تؤشّر الى أنّ العدّ التنازلي قد بدأ لاشتعال هذه الحرب والدخول في سيناريوهات مفتوحة على احتمالات أقلّها سيكون كارثياً؟
ثمة من يقول إنّ لبنان، وإن كان حتى الآن قد تجاوز «قطوع» التصعيد مع إسرائيل، فذلك لا يعني، في أيّ حال من الأحوال أنّه تجاوز بَعَد قطوع الحرب. ويقرأ التصعيد المتدرّج من قِبل اسرائيل على أنّه تعبير واضح وصريح عن نيتها بتوسيع نطاق المواجهة نحو حرب واسعة، ويدعّم ذلك بما يقوله المستوى العسكري في اسرائيل عن إكمال استعداداتهم وجهوزيّتهم لحرب كبيرة انطلاقاً ممّا يعتبرونها جبهتهم الشمالية. فضلاً عن أنّ اصواتاً بدأت ترتفع في اسرائيل للدخول في هذه الحرب وضرب «حزب الله»، والاستفادة مما يعتبرونها فرصةً الحسم ضدّ الحزب، التي توفّرها الاساطيل الاميركية والغربية المنتشرة في بحر المنطقة.
ولكن ثمة في المقابل من يفترض أنّ هذا التصعيد لا يعدو أكثر من تهويل على لبنان، ولو انّ احتمال الحرب الواسعة قائم بالفعل، لما تأخّرت اسرائيل حتى اليوم، بل لكانت اشعلتها في الايام الاولى للمواجهات أي قبل ما يزيد عن شهر. فالأولوية الوحيدة لاسرائيل حالياً، هي حربها على قطاع غزة التي تسخّر لها كل آلتها العسكرية والحربية ولا تريد لأي عامل آخر، سواءً من جبهتها الشمالية او من اي جبهة أخرى، ان يُصرف تركيزها على تحقيق هدفها الذي خفّضت سقفه من سحق حركة «حماس» الى إنهاكها وإضعاف قدراتها.
ويدعّم صاحب هذا الرأي إسقاطه لفرضية الحرب بما بدأ يُثار في الاعلام الاسرائيلي حول الحرب الطويلة والمؤلمة التي التزمت بها حكومته، والانتصار الحاسم على «حماس»، حيث انّ المحللين الاسرائيليين صرّحوا بأنّهم لم يلمسوا بعد ما يزيد عن شهر من الحرب، شيئاً من الانتصار الذي وعد به نينياهو، وبدأ بعضهم يظهّر خشيته «من أن تتحوّل الحرب الى مأزق لاسرائيل كلما طال أمدها من دون ان تحقق هدفها». يُضاف إلى ذلك أنّ واشنطن اكّدت انّها لا ترغب لا في توسيع دائرة الصراع، ولا في حرب طويلة، وهو ما عبّر عنه مسؤولون في ادارة الرئيس الاميركي جو بايدن بقولهم «إنّ امام اسرائيل فترة محدودة لتحقيق هدفها». فكيف لها وهي بالحال هذه، ان تدخل حرباً واسعة على «حزب الله»، تقاطعت تقديرات المحللين الاسرائيليين على «انّ حرباً في الشمال اصعب على اسرائيل بكثير من الحرب على «حماس» نظراً لما يملكه الحزب من إمكانات وقدرات وخبرات، ولأنّ حرباً كهذه تفتح امام اسرائيل جبهات قتالية عدة». معنى ذلك انّها بدل ان تكون اسرائيل في مأزق تصبح في مأزقين وربما مآزق.
وبمعزل عن ايّ من هذين الرأيين هو الأقرب الى الواقع، فحتى الآن لا أحد في مقدوره ان يحدّد اتجاهات الرياح الحربية، الّا انّ الداخل اللبناني بكل مستوياته كالواقف على «إجر ونصّ»، حيث انّ ثمة شعوراً عامّاً بأنّ الحرب تقترب من لبنان. فالميدان العسكري يزداد غلياناً، وانفجاره على نحو اوسع يبدو انّه بات مربوطاً بشعرة رفيعة، فضلًا عن انّه لا يؤمّن أبداً الى ما تبيته اسرائيل.
في مجمل الاحوال، الحرب على غزة ستنتهي إن عاجلاً أو آجلاً، فلا غزة هي غزة كما كانت قبلها، ولا حتى المنطقة، وامّا لبنان ما بعد حرب غزة، سواء شملته حرب واسعة او لم تشمله، فليس لبنان كما كان قبلها. حيث أنّ كل واقعه وكل ملفاته ستنضبط على نتائج هذه الحرب اياً كانت، بما ينحى به نحو واقع خلافي جديد اكثر توتراً وحدّة مما كان سائداً ما قبل الحرب، بين جبهة تتحدث عن انتصار مسبق وتتوقع مزيداً من القوة لـ»حزب الله» وحلفائه في الداخل، وجبهة ثانية اعتراضية بدأت منذ بداية الحرب تتخذ من نموذج غزة المدمّر، منطلقاً لرفع الصّوت أكثر في وجه الحزب، والاسابيع الاخيرة شهدت «بروفات» تمهيدية ارتكزت على حقيقة انّ اللبنانيين لا يريدون الحرب، للمطالبة بنزع قرار الحرب والسلم من يد «حزب الله»، وكذلك الالتزام الكلي بالقرار 1701 وانسحاب عناصر الحزب من المنطقة الحدودية.
يعني ذلك، انّ لبنان ما بعد غزة، بازار مفتوح على كل ما يعمّق الخلافات ويعطّل الاستحقاقات ويشرّع الباب واسعاً على كل الاحتمالات.