هناك حركة غير اعتيادية على المستوى المالي والنقدي، في محاولة لابتكار معالجات مؤقتة، وطرح اقتراحات تسمح بإعادة بعض الحيوية الى الوضع الاقتصادي. لكن هذه الحركة لا تخلو من الخطورة، رغم النيات الحسنة، لأنها قد تكون بديلاً هجيناً من الحل الشامل والجذري، والمنتظر منذ اكثر من أربع سنوات.
من خلال الاعمال التمهيدية الاولية التي بدأها صندوق النقد الدولي قبل اندلاع حرب غزة في 7 تشرين الاول الماضي، تحضيراً للتقرير الذي يُفترض ان يصدر في العام 2024، وفق المادة الرابعة، تبيّن انّ معطيات كثيرة تبدلت في المشهد الاقتصادي اللبناني. وكان يُفترض استكمال الاعمال تمهيداً لزيارة وفد من الصندوق الى بيروت في آذار المقبل، لإنجاز كل الاعمال لإصدار التقرير المنتظر حول الوضع الاقتصادي والمالي والاجتماعي في لبنان. لكن النشاطات توقفت، وتمّ إخلاء مكتب صندوق النقد الدولي في لبنان. وبالتالي، أصبحت معظم النشاطات معلّقة، بانتظار سكوت المدفع، وعودة الوضع الى طبيعته. وبالمناسبة، مكتب صندوق النقد في بيروت هو مكتب اقليمي لدول المنطقة، وهذا يعكس بطبيعة الحال، موقع بيروت المميّز، رغم الكوارث والأزمات، بحيث انها لا تزال تُعتمد كمقر اقليمي لمؤسسات دولية. لكن استمرار الأزمات والاضطرابات قد يؤدّي الى تغيير هذا الوضع ايضاً.
في عودة الى تقرير المادة الرابعة، وفي حال تعذّر إصداره العام المقبل، في حال طال أمد الحرب في غزة، وتعذّر استكمال الدراسات المطلوبة لإصدار التقرير، فهذا يعني انّ فرص الحل الشامل ستكون مؤجّلة، على اعتبار ان مضمون هذا التقرير يُبنى عليه في تقدير الوضع المالي والاقتصادي، لإنجاز اي اتفاق مع صندوق النقد.
وما هو خطير في عمليات التأجيل المستمرة منذ اكثر من اربع سنوات، انها تشجّع على الاجراءات المؤقتة، والتي يمكن ان تكون مُضرّة، في حال تمّ اعتمادها كبديل من الخطة الشاملة. على سبيل المثال، جاء قرار مصرف لبنان بتوسعة قاعدة المستفيدين من التعميم 158، ليُنصف شريحة مظلومة من المودعين. لكن هذا القرار قد يصبح مشكلة في حد ذاته، في حال تبيّن ان بعض المصارف عاجزة عن تنفيذه، وفي حال تبيّن لاحقاً، انه قد يؤثّر سلباً على امكانات الحل الشامل لمشكلة الودائع.
وبالتالي، من الضروري ان يكون كل اجراء مؤقت يُتخذ اليوم، متناسقاً مع مبدأ عدم التأثير السلبي على الحل الشامل، ومن الاهم ألا تشكّل هذه الاجراءات المُجتزأة بديلاً من الحل الشامل. اليوم، هناك في الكواليس اقتراحات يتمّ درسها، تهدف الى تنشيط الوضع المالي من دون انتظار الحل النهائي. هذه الاقتراحات التي تجري تحت عنوان معالجات الضرورة، تصبح خطيرة ومميتة اذا كانت نية من يقترحها هي الاستغناء عن الحل الشامل، اي التخلي عن مشروع خطة متكاملة للتعافي تشمل الى جانب الاتفاق مع صندوق النقد، معالجة الخسائر في مصرف لبنان، واعادة تطبيع الوضع المصرفي، والتوافق على مسار حل لمشكلة الودائع. وحتى اذا كانت النية حسنة، فإنّ الخطر يكمن في ان تستفيد الدولة من الاجراءات المجتزأة، وتصرف النظر نهائياً عن المعالجات الشاملة.
وفي الحديث عن تقرير صندوق النقد تحت البند الرابع، لا بد من طرح اسئلة حول طريقة تعاطي الدولة بكل أجهزتها مع هذا التقرير الذي صدر في حزيران 2023، وكان يُفترض ان يشكّل مادة دسمة للمراجعة واتخاذ القرارات، واذا به يدخل غياهب الاهمال والنسيان، تماماً كما حصل مع تقرير التدقيق الجنائي الذي أنجزته «الفاريز اند مارسال».
في تقرير صندوق النقد، ما يفيد بأن حجم الفجوة المالية في بداية العام 2020، كانت في حدود الـ20 % فقط، بما يعني ان 80 % من الودائع كان مغطّى. فهل كانت هذه الفجوة تستحق اعلان التوقف عن الدفع في آذار 2020 ؟ والاهم، من المسؤول عن وصول هذه الفجوة اليوم الى ما نسبته 85 %، بما يعني ان الودائع صارت مُغطاة بنسبة 15 % فقط، بانخفاض قدره 65 %. وهل من دليل اوضح على مسؤولية «الدولة» في الافلاس والانهيار؟
وفي تقرير «الفاريز اند مارسال»، ورد انّ القرارات في مصرف لبنان كانت تُتخذ بالاجماع في المجلس المركزي، اي بموافقة مفوض الحكومة، وممثلي الدولة مثل المدير العام لوزارة المالية، ومدير عام وزارة الاقتصاد. بما يعني انّ «التمويه» في القيود المحاسبية، والذي كان يهدف الى إخفاء خسائر مصرف لبنان، كان يتمّ بموافقة المجلس المركزي مجتمعاً، بدليل انه كان يجري استبدال الخسائر بأرباح وهمية تُمنح سنوياً الى وزارة المالية، وهي حصّتها القانونية في الارباح. وهذا الامر لم يكن يجري لدعم وزارة المال، بل للتمويه ايضا، لأن الدولة كانت ستضطر الى اعادة رسملة مصرف لبنان، وفق قانون النقد والتسليف، في حال اعترفت بوجود خسائر. وهكذا يتبيّن ان الدولة ومصرفها المركزي كانا شريكين في جرم تزوير الحقائق، بهدف الاستمرار في استنزاف الاموال، وتكديس الخسائر من دون محاسبة.