إلى العام المقبل رُحّل الاستحقاق الرئاسي على أمل أن يخرج من حيّز الأمنيات ليشهد الآتي من الأيام ولادة رئيس من رحم توافق سياسي هو حتى يومنا الحالي ضرب من المستحيل. منذ الأشهر الأخيرة لعام 2023 بدأ يتعاطى أهل الحلّ والربط الرئاسي على أنّ انتخاب الرئيس غير ممكن وأنّ الجهود بخصوصه ستتكشّف مع بدايات عام 2024. كان ذلك أقرب إلى التنبّؤات التي درجت عليها العادة مع نهاية عام وبداية آخر، والتي يتلوها المنجّمون فتكذب تنبّؤاتهم ولو صدقوا. الفرق بينهم وبين أهل السياسة أنّ المنجّمين يضربون المندل ويستطلعون المستقبل من وقائع ورؤى تتراءى لهم بينما لا تركن تنبّؤات أهل السياسة في لبنان إلى معطيات أو وقائع بقدر ما تكون مجرّد قراءات غير مصيبة.
كان عاماً حافلاً بالإخفاقات
كان عام 2023 عاماً حافلاً بالإخفاقات والخلافات السياسية التي صعّبت انتخاب رئيس. تقدّمت مبادرات الخارج على المساعي الداخلية. أدارت اللجنة الخماسية محرّكاتها. بيانات متتالية ركّزت على مواصفات الرئيس وآثرت الابتعاد عن التسميات على أمل أنّ اللبيب من الإشارة يفهم. واللبيب في الحكاية هو الثنائي أو أحد طرفيه، أي الحزب الذي سمع وفهم الرسائل وأدار لها الأذن الطرشاء مقدّماً حساباته الإقليمية الاستراتيجية على حسابات الداخل وإن كانت رئاسية.
من رحم الرئاسة، تحرّك الفرنسيون بموفدين نشطوا على خطّ باريس – بيروت، وكلّما حطّ واحد منهم في العاصمة اللبنانية تراكمت التحليلات وسابقت الآمال لعلّ بين سطور الأمّ الحنون ما يفي بالغرض. الفرنسيون أيضاً رحّلوا مبادراتهم الرئاسية حتى العام المقبل، وكان آخر ابتكاراتهم موفداً صار أشهر من نار على علم وهو جان إيف لودريان الذي حضر يتلو توصياته بالتمديد لقائد الجيش جوزف عون كخطوة أولى على درب تحويله إلى مرشّح رئاسي رغم التأكيد السائد بالفصل بين الأمرين أي قيادة الجيش والترشيح لرئاسة الجمهورية، ووعد بالعودة ثانية.
الموفد القطري المجهول
تحرّك الجانب القطري مستفيداً من نجاح اتفاق الدوحة الذي أنتج انتخاب ميشال سليمان رئيساً بعد طول تعطيل. وعلى الرغم من كونه عضواً في الخماسية، إلا أنّه غرّد رئاسياً بمبادرة منه. فجال الموفد القطري المجهول باقي الهويّة على المسؤولين وتناوب على طرح عدّة صيغ إلى أن رسا على فكرة الاتفاق على خيار رئاسي ثالث ساحباً ترشيح قائد الجيش من التداول ومقدّماً عليه المدير العامّ للأمن العامّ بالإنابة الياس البيسري. أخيراً أجرى الموفد القطري تعديلاً على فريق عمله المعنيّ بملف لبنان، ويتحضّر لاستكمال مشاوراته الرئاسية قريباً حسب مصادر مطّلعة على مساعي قطر أوضحت أنّ الموفد القطري حمل أكثر من اسم مرشّح، لكنّه قدّم البيسري على ما عداه لما قد يشكّله من توافق، ولأنّه غير محسوب على أيّ فريق أو حزب سياسي.
السفيرة شيا والعام 2023
في هذا الوقت اكتفى الأميركي بدور المراقب المعطّل عن بعد. كلّما لمس طيفاً لحلّ سارع إلى تغيير المسار. كان عام 2023 عام السفيرة الأميركية بامتياز دوروثي شيا التي كثّفت زياراتها من مسؤول إلى آخر وتحرّكت مستفسرة ومستطلعة أفق انتخابات الرئاسة. هي أيضاً لم تنقطع عن التأكيد أن ليس لبلادها مرشّح رئاسي وأنّ الأولوية هي للمواصفات.
في الوقت نفسه نشط الموفد الأميركي آموس هوكستين على خطّي الترسيم البرّي وانتخابات الرئاسة. تقول المعلومات إنّه بصدد العودة في الأسابيع الأولى من العام الجديد في مسعى رئاسي تحت عنوان بحث الترسيم، وإنّه هذه المرّة سيدفع باتجاه انتخاب قائد الجيش وتحويله إلى مرشّح جدّي. ولمست مصادر على صلة بمساعي الموفد الأميركي أنّ بحثاً متقدّماً يتمّ خلف الكواليس، وأنّ هناك أطرافاً سياسية من فريق الممانعة لم تتصدَّ للفكرة بل تعاملت معها بمرونة.
على مستوى المساعي العربية كان للسعودية الحضور الأكبر معنوياً في الرئاسة اللبنانية. المملكة التي لم تتفوّه بأيّ موقف أبعد من دعوة النواب إلى انتخاب رئيس وتحديد مواصفات الرئيس العتيد بقيت هي البوصلة التي تشير إلى أن لا رئيس في الأفق ما لم يصدر ما يؤكّد نيّتها مباركة انتخاب أيّ شخصية مارونية. حتى سليمان فرنجية بقي في حيرة من أمره. لم تسعفه زيارته لمقرّ السفير وليد بخاري في جلاء موقف المملكة. سرعان ما نزع السفير الصبغة الرئاسية عن الزيارة. زيارات بخاري المتكرّرة لفرنسا وعودته في كلّ مرّة من بلده لم تحمل مؤشّرات رئاسية، وفي كلّ مرّة كان حراكه يضاعف حيرة راصديه.
أمّا محلّياً فقد باءت المحاولات بالفشل. لم تلقَ دعوات بري المتكرّرة للحوار الرئاسي من يلبّيها. إذ كيف لمن يعلن ترشيح حليفه سليمان فرنجية ويتمسّك به أن يدعو إلى حوار؟ سأل الرافضون ممّن رأوا في برّي طرفاً لا محايداً يمكنه أن يكون مديراً وحكَماً في حوار بين متخاصمين. لم يستسلم برّي، وهو أعلن أنّه بصدد إطلاق مبادرة رئاسية جديدة مطلع العام المقبل من دون أن يوضح معالم هذه المبادرة وما إذا كانت تتعلّق بمرشّح رئاسي ثالث خارج المرشّحين جهاد أزعور المدعوم من المعارضة وفرنجية مرشّح الثنائي. على أكثر من خطّ يكثّف بري مساعيه، وتواصله قائم مع أكثر من طرف سياسي.
على خطّ عين التينة استجدّ ما يمكن البناء عليه، وهو التناغم الذي ساد بين بري والقوات اللبنانية. أعطت القوات صكّ براءة تشريعي لبرّي مقابل تمرير الأخير مشروع قانون القوات للتمديد لقائد الجيش. بعدها مباشرة تلقّف رئيس القوات سمير جعجع الأمر ودعا بري إلى توافق ثنائي على رئيس والتحرّر من الحزب والتيار الوطني الحر، أي دعاه ليشكّل معه ثنائية ثانية تعويضاً عن ثنائية الحزب والتيار. التزم بري حيالها الصمت، بينما بقي الحديث قائماً حول إمكانية أن يسري مفعول التمديد على الرئاسة ويكرّر بري السيناريو ذاته.
ماذا فعل باسيل؟
من ناحيته سعى باسيل من خلال جولة تشاورية إلى أن يحدث تقاطعاً حول ملفّات عدّة: الإجماع على مواجهة خطر إسرائيل في حال تعرّض لبنان لأيّ اعتداء، خطر النازحين وانتخابات الرئاسة. نجح في أوّل ملفّين، بينما لم يستطع كسر الجمود في الملفّ الثالث. مع بداية العام وبعد عطلة الأعياد يستعدّ باسيل لاستئناف جهوده الرئاسية مستفيداً من مناخ قطريّ مساعد وانفتاح على السعودية وسفيرها.
أمّا قوى المعارضة فقد كانت الأكثر خيبة على المستوى الرئاسي. كان تأييد أزعور عصارة جهودها. وهو المرشّح الذي غاب عن المشهد منذ جلسة الانتخاب النيابية الأخيرة ونيله 59 صوتاً. غاب أزعور وبقي طيفه يصول ويجول في تصريحات المسؤولين. يتقدّم حضور فرنجية عليه إعلامياً ولو أنّ المرشّحَين الاثنين استُهلكا حتى بات البحث عن ثالث غاية وهدفاً.
ساعات تفصل عن بداية عام جديد. مساعٍ متواصلة ومعلومات عن صيغة رئاسية جديدة وعنصر مفاجأة قد يبصر النور. قد لا يُنتج بالضرورة انتخاب رئيس. ذلك أنّ شرط الرئيس هو التوافق المفقود، خاصة في ظلّ استمرار حرب إسرائيل على غزة وخوض الحزب في جبهة المساندة جنوباً.
في ردّها على السؤال ترفض مصادر الحزب ربط المساعي الرئاسية بالعام الجديد. المسألة بالنسبة للحزب الأكثر تأثيراً في الملفّ مرتبطة بالحرب على غزة ونتائجها، ويقول الحزب لمراجعيه إنّه لا رئاسة قبل نهاية الحرب، لكنّ السؤال: ماذا لو طرح الأميركي ترشيح جوزف عون؟ هل يقبل الحزب التنازل عن ترشيح فرنجية أم ينسحب الأخير من تلقاء نفسه فيسهل عليه الخيار أم ربّما كانت لدى الحزب أسماء أخرى يوافق عليها لكن ليس قبل أن يقول فرنجية كلمته الفصل بعدما يتيقّن بنفسه أنّ حظوظه باتت معدومة؟
انتخابات الرئاسة أمنية العام الجديد. ارتبط مسارها بالمسار الإقليمي، وانتقل من العلاقات السعودية الإيرانية إلى العلاقة الإيرانية الأميركية، ثمّ بالانفتاح العربي على سوريا وعودة سوريا إلى الجامعة العربية، وقبلها ارتبط بالحرب في اليمن. كلّها ملفّات شهدت انفراجات وبقي انتخاب الرئيس عالقاً إلى أن وقعت حرب غزة، وليس معلوماً متى تنتهي هذه الحرب، فماذا لو صار مرهوناً بانتخابات الرئاسة في أميركا؟