لم يَترك الرئيس سعد الحريري مجالاً للشكّ في أن زيارتَه لبيروت حيث يتمّ اليوم إحياءُ الذكرى 19 لاغتيال والده الرئيس رفيق الحريري هي «إعلانُ نياتٍ» وأكثر بالعودة عن قرار تعليق المشاركة في العمل السياسي الذي اتخذه قبل 25 شهراً، على أن تكون «الإجراءاتُ التنفيذية» لهذه العودة مرهونةً بتبلْور المَشْهد الجديد في المنطقة والتسوية المرتقبة ولو بعد حين، وخريطة الطريق للبنان في كَنَفِ الواقع الذي سيولَد في ضوء «اليوم التالي» لحرب غزة وملحقاته في الإقليم وساحاته ولا سيما التي ارتبطتْ بـ «قوس نار».
وإذا كانت الإشاراتُ الواضحة من الحريري بـ «الجهوزية» السياسية، المرتكزة على رافعة شعبية تعبّر عن نفسها اليوم بأقوى صورة في وسط بيروت وعلى حاضنة وطنية شكّلها التقاطر من كل الأطياف والطوائف الى بيت الوسط وعلى احتضان ديبلوماسي، أثارتْ نوعاً من الارتياح إلى أن الأرضية اللبنانية لملاقاةِ ما بعد حرب غزة بدأت تُعدّ ويمكن أن تكون واعدة بحال اكتملتْ التقاطعات الداخلية – الإقليمية التي تجعل عودة زعيم «تيار المستقبل» إلى المعادلة السياسية من ضمن رؤية لدفْع الوضع اللبناني برمّته، فإن المواقف التصعيدية والتي لم تخلُ من لغة «حربية» التي أطلقها الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله أمس عكستْ حجم المخاطر التي تحدق بـ «بلاد الأرز» في المرحلةِ الفاصلة عن بلوغ تفاهمات في المنطقة.
ولم يحجب خطابُ «نحن لها» لنصرالله الذي جَزَمَ بأن «شنَّ الحرب على لبنان لن يوقف جبهةَ الجنوب ما لم يتوقّف العدوانُ على غزة»، متوجّهاً لإسرائيل «إذا وسّعتم (الحرب) نوسّع، وإذا نفّذ العدو تهديداته ضدّنا فعليه أن يدرك أنه سيكون لديه مليونيْ نازح من الشمال عوض المئة ألف مستوطن الذين غادروا»، الأنظار عن مضيّ الحريري وتياره بحال الاستنهاضِ الشعبي والسياسي تحت ما بدا عنوان «أنا موجود» وأن الباب فُتح أمام عودة «في التوقيت المناسب».
فزعيم «المستقبل» أعطى ما يكفي من ملامح تؤشّر إلى أن زيارته لبيروت في 2024 مختلفة بالكامل عنها في شباط 2022 و 2023، وأنها بمثابة «تعليقٍ» لقرار تعليق عمله السياسي الذي أعلنه في 24 كانون الثاني 2022 والذي ارتكز في حينه على حيثياتٍ داخليةٍ بامتداداتٍ إقليمية وضعتْ لبنان في حال من انعدام الجاذبية و«فاقداً للتوازن» بما جعِله يزحل تباعاً نحو المحور الإيراني في غزة «صراع النفوذ» في المنطقة.
فإلى جانب حرصه على الوصول إلى بيروت قبل 3 أيام من موعد ذكرى 14 شباط، على أن يبقى حتى نهاية الأسبوع، وهو ما لم يفعله في 2022 و2023، فإنّ الأهمّ كان في شكل استقبالاته ومضمونها في بيت الوسط الذي استقبل مساء أمس أول حشد شعبي ترحيباً بالحريري ودعوةً له للعودة إلى الحياة السياسية تحت عنوان «مننزل ليرجع»، في ما اعتُبر «بروفة» لِما ستكون عليه المشهدية في وسط بيروت اليوم.
ولم يكن ممكناً إغفال توزيع الحريري، عبر صفحته على منصة «أكس»، نشاطَه السياسي والديبلوماسي من خلال شريط استقبالاته، صورةً صورةً، وكأنه في دوام عمل كامل، كزعيم لحزب ورئيس سابق للحكومة، قبل أن تكتمل الدلالاتُ بأن عودةَ 2024 ليست عادية بقيام مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبداللطيف دريان بزيارة لرئيس «المستقبل» على رأس وفد كبيرٍ من المشايخ ومفتي المناطق، طالبَه بالرجوع عن قرار الانكفاء.
وفي حين كان الحريري هو الذي زار دريان في شباط 2023، فإن ثمة مَن تعاطى مع خطوة دار الفتوى هذه المرة، على أنها أولاً تعبير عن إدراكٍ بأن طابع زيارة الرئيس السابق للحكومة هذه المرة مختلف، كما أنها جاءت أشبه بتكريس الغطاء من المرجعية الروحية للمكوّن السني لعودة الحريري إلى صلب الحياة السياسية كزعيمٍ، وسط تقارير أشارت إلى أن مفتي الجمهورية خاطبه بـ «لا وريث لسعد الحريري إلا سعد الحريري، كنا معك وسنبقى».
كما أفادتْ بعض الأجواء بأن السفيرة الأميركية في لبنان ليزا جونسون حضّتْ الحريري على الانخراط مجدداً في المشهد السياسي في ضوء التسويات الآتية على المنطقة، وكذلك فعل السفير الروسي ألكسندر روداكوف الذي أكد دور زعيم «المستقبل» في عملية النهوض بلبنان، وأن الحريري أعطى أمام زوار إشاراتٍ تُفهم على أنها «نية» في هذا الإطار. علماً أن اللقاءات الديبلوماسية للرئيس السابق للحكومة اشتملت أيضاً على استقبال السفير المصري علاء موسى وسفيرة قبرص ماريا حجي تيودوسيو.