الإنتقام والإغتيال متلازمتان للعدو الإسرائيلي يلجأ إليهما كلما ضاقت بحكومته الحلول السياسية أو العسكرية كملجأ دائم لاستمرارية وجوده ككيان مغتصب، لا يعرف سوى الغدرمفتاحاً لبقائه، يدخله من باب الإغتيال…
فبعد “طوفان الأقصى” فُتح أرشيف عملية “ميونيخ” التي جرت في العام 1972، وقرر بنيامين نتنياهو تقليد “غولدا مائير” التي وجدتها في ذلك الوقت فرصة تاريخية، لتصفية كل من يعارض التسوية داخل صفوف منظمة التحرير الفلسطينية، وتحديداً أصحاب الروؤس الحامية. وعلى خطاها أنشأ “نتنياهو” وحدة خاصة من “الشين بيت” و “الموساد”، مطلقاً على العملية إسم “نيلي” تضم لائحة تصفية لقادة “حماس”، و”نيلي” هي اختصار لجملة (نتساح يسرائيل لو يشاكر)، وهو اقتباس توراتي ترجمته (خلود إسرائيل لن يكذب).
أما أسباب اللجوء الى الأغتيال كوسيلة بشكل عام، تعود إلى أنّ الدولة قد وصلت الى حالة من الخوف والأرباك بسبب شخص معين أوعدة أشخاص، تلجأ إلى الأنتقام منهم عبر تصفيتهم جسدياً، لما قد يشكلوا بالنسبة لمنظمي هذه العمليات عائقاً لهم بسبب تأثيرهم السياسي أو العسكري أو الديني…
وفي قراءة تاريخيّة يمكن القول أنّ أول تنظيم سري (ديني) إحترف وامتهن الإغتيال السياسي هم جماعة “الدعوة الجديدة” ومنهم إشتق مصطلح الإغتيال (Assassination)أو ما عرفوا لاحقاً ب”الحشاشين”، وكان الرحالة الإيطالي ماركو بولو هو أول من أطلق هذه التسمية عليهم، نتيجة لسوء ترجمة إسم زعيمهم “حسن بن صباح” الملقب ب”شيخ الجبل”، وذلك عند زيارته لمعقلهم المشهور بقلعة “ألموت” (القرن 12)، ويدور الكثير من الجدل حول هذه الجماعة التي نفذت عمليات اغتيال في غاية التنظيم والدقة ضد الصليبيين والعباسيين والسلاجقة، واستمروا على هذا المنوال حتى قضى عليهم المغول.
مع مرور الزمن تبلورت فكرة إنشاء وحدة خاصة “للإعمال القذرة” ضمن الأجهزة الخاصة التابعة للحاكم، فكانت المملكة المتحدة الرائدة في هذا المجال، فمن خلال “جهاز الخدمة السرية” الذي أنشأته الملكة إليزابيث الأولى (الملقبة بالملكة العذراء) خلال القرن 15، إستطاعت السيطرة وحكم البلاد بعد تصفية معارضيها. ليشكل أوئل القرن العشرين منعطفاً جديداً في صراع أجهزة الأمن والعقول المدبرة للإغتيالات الدولية مع إنشاء جهاز الإستخبارات البريطاني (SIS)، ويعرف باسم MI6 الذي يضم شعبة مستقلة “لإنفاذ القانون” مختصة في استخدام الأساليب القذرة، وكذلك الأمر بالنسبة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية.
مع بدء الغزو الصهيوني للمنطقة، كانت هناك حاجة لتنفيذ عمليات “قذرة” تهدف إلى تهجير اليهود الى فلسطين سواء بالإقناع أوبالترهيب، فتم إنشاء جهاز”الموساد” (هيئة الإستخبارات والمهمات الخاصة) عام 1937، وقد كانت إحدى الأجهزة الأمنية التابعة للهاغاناه. ونتيجة للتعاون الأمني التاريخيّ بين الموساد من جهة، وبين والولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وغيرها من الدول من جهة أخرى، مُنح الموساد حرية الإمتياز بالحركة الدولية، التي بنى من خلالها مسارح عملياته، فكان القاضي والجلاد في آنٍ واحد، ليقرر وينفذ إعداماته من قبل الوحدة “كيدون” ومعناها الحربة أو الخنجر وهي مستوحاة من جماعة يهودية أطلقت على نفسها اسم “السيكاري” أي الخنجر المقوس، وهم من أتباع “يهوذا الجليلي” (في القرن الأول) الذي أسس “طائفة رابعة” من اليهودية أوما عرفوا “بالجليليين”، أفتوا بقتل الرومان باستخدام هذا “الخنجر”، كما مارسوا “فتوى الترهيب” على اليهود أنفسهم بسبب التزامهم دفع الضريبة للرومان، فأحرقوا المنازل وسرقوا الماشية، حتى صار مصطلح “السيكاري” دلالة على الإرهاب اليهودي. وكمؤشر لإحياء تراثه الدموي أنشىء “الموساد” وحدة “كيدون” هذه، للقيام بمهام تنفيذية خاصة تتمثّل بالخطف والإعدام والإغتيال، وأتبعها لجناح عملياته “قيسارية”. وتتميز هذه الوحدة بالتالي:
التمركز في قسم خاص معزول داخل مبنى الموساد، أما القاعدة الأم تقع في صحراء النقب، حيث تجري تدريباتها.
الخضوع لبرنامج تدريبي دقيق وواسع لسنوات طويلة، يشمل التدريب على: الأسلحة، المتفجرات والكفاءة البدنية، قيادة مختلف أنواع المركبات، والتمكن من اللغات وتحديداً “العربية”.
تضم حوالي 50 عنصراً بينهم عدد من النساء، أعمارهم بين 20 و 30، ومن خريجي وحدة شييطيت 13 (وحدة الكوماندوز البحري) وساييرت ماتكالا (سَرِيّة الأركان العامّة).
أنها الوحيدة من بين أجهزة الأستخبارات الدولية، تملك تفويض قضائي رسمي صادرمن الكيان الغاصب بتنفيذ اغتيالات بعد مراجعة رئيس الحكومة.
يخضع أفرادها للإشراف النفسيّ من قبل اختصاصيين، ولكن أكثر شدةً وصرامة بسبب طبيعة العمل الخطير فيها.
تُسخّر لخدمتها عند التنفيذ كافة الوحدات والأجهزة ذات الصلة.
كانت بداية عمل هذه الوحدة في العام 1956 مع عملية إغتيال الملحق العسكري المصري في غزة “مصطفى حافظ”، لتدريبه الفدائيين الفلسطينين في غزة. وفي العام 1962 كانت بدايات “كيدون” لعملياتها القذرة خارج المنطقة، افتتحتها بقتل عالم الصواريخ الألماني “هاينز كروغ”، الذي كان يعمل في برنامج تطوير الصواريخ المصرية في ميونيخ.
ولم يقتصر دور هذه الوحدة على تصفية خصومها بل قدمت فيما مضى خدمات أمنية، إستفادت منها كل من حكومة “الأبرتهايد” (نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا)، وإيران خلال“حكم الشاه” بالتعاون مع “السافاك” حيث سُجل نتيجة لهذا التعاون ما يقارب 3000 عملية إغتيال داخل وخارج إيران، راكمت من خلالهم “كيدون” خبرات في أساليب القتل والتعذيب، وتشاء الأقداراليوم أن تقف هاتان الدولتان ضد الكيان المحتل في عدوانه على “غزة”، فحصد العدوالصهيوني نتاج ما زرعه “الموساد” وذراعه “كيدون” من مجازر بحق شعبيَ البلدين.…وتسارعت وتيرة الإغتيالات للوحدة “كيدون” مستهدفة القادة في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية وباقي الفصائل وحتى طالت علماء ذرة عراقيين وايرانيين…
إلا أن لهذه الوحدة محطات فشل كبيرة، فكان لها إخفاقات شكلت إحراجا لدولة الإحتلال، ففي العام 1973 قتلت وحدة كيدون نادلاً مغربياً في النرويج، بعدما تصوروا أنه القيادي في منظمة التحرير الفلسطينية علي حسن سلامة (ابوحسن) لإتهامه بالتورط في “هجوم ميونيخ”، تم القبض على 6 من “كيدون”، وحوكموا في النرويج… لتعود فتنال من “ابو حسن” في بيروت بعد 6 سنوات. وفي العام 1973 فشلت “كيدون” في محاولة لإغتيال القيادي”سعيد السبع” (أحد مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية) في طرابلس شمال لبنان وأٌعتقل المتهم، الذي إعترف أنه ضابط في وحدة “كيدون” واسمه “داني ياتوم” وليس كما ادعى سابقا أنه الألماني “أورلخ لوسبرغ”، جرى تحويل ملفه مع 20 شخصاً من معارفه إلى المحكمة العسكرية في بيروت، وبعد توقيفه مدة شهرين تم ترحيله وإغلاق ملفه بظروف غامضة، هي أشبه بصفقة سوداء، خاصة وأنه قد شغل فيما بعد منصب مدير جهاز الموساد (1996-1998). قبلها بحوالي الشهر تم إخلاء سبيل 8 صهاينة من وحدة “سييرت متكال”، يحملون جوازات سفر هولندية مزورة حضروا على متن يخت للمؤازرة باغتيال “سعيد السبع” بعدما أوقفهم الامن العام في ميناء طرابلس، وبحوزتهم جهاز إرسال بعيد المدى و20 فيلماً مصوراً للمدينة، إضافة إلى خرائط ومعدات أخرى. وفي العام 1997 فشلت “كيدون” في محاولة لاغتيال خالد مشعل (حركة حماس) في العاصمة الأردنيه عمّان عبر رشه بالسم…
في الوقت الحالي ما زالت “كيدون” توجّه مجهودها الإرهابي اتجاه حركتي حماس والجهاد، وكذلك القادة العسكريين والأمنيين في حزب الله والحرس الثوري الإيراني… فاذا كانت “إسرائيل شرٌ مُطلق” فوحدة “كيدون إرهابٌ مُطلق” فهي أخطر منظمة إرهابية في التاريخ، يقابلها صمت أممي مريب حول جرائمها، فالى أي مدى حدود تورطها مع هذه الدول؟ والأهم هل جرى تعبئتهم دينياً، ليكونوا طائفة من الغلاة؟ وهل يقتلون لتقريب يوم الخلاص، أم خوفا من “خراب البيت الثالث”؟…