على وقع ارتقاء «التَدافُع الخشن» بالنار بين «حزب الله» وإسرائيل إلى مستوياتِ الـ «ميني حرب»، أقلّه في اتساع جغرافية المواجهات على المقلبيْن مع ضوابط تحول حتى الساعة من دون الانفجار الشامل، وجدتْ بيروت نفسها مجدداً وجهاً لوجه أمام «القنبلة الموقوتة» المعيشية التي يشكّلها موضوع تدعيم رواتب العاملين في القطاع العام والمتقاعدين والذي قفزت معه الأزمة المالية إلى صدارة الأولويات بعد احتجابٍ خلف دخان المواجهات على جبهة الجنوب، لتتقاسم المشهدَ الداخلي بشقّه «غير المرقّط» مع محاولاتٍ لـ «لبْننة» مخرجٍ لمأزق الانتخابات الرئاسية المعلّقة منذ نحو 16 شهراً على استقطاباتٍ محلية بأبعاد إقليمية.
وفيما كانت المواجهاتُ بين «حزب الله» وإسرائيل على اشتدادها مع تسجيلِ عودةٍ لكتائب «القسام» في لبنان إلى الجبهة الجنوبية حيث تبنّتْ قصفَ «مقر قيادة اللواء الشرقي 769»معسكر «غيبور»و«ثكنة المطار في بيت هلل»برشقتين صاروخيتيْن مكوّنتيْن من 40 صاروخ غراد، في سياق الرد على المجازر الصهيونية بحق المدنيين في قطاع غزة واغتيال القادة وإخوانهم بالضاحية الجنوبية في لبنان (القيادي صالح العاروري في 2 يناير الماضي)»، لم تهدأ التكهناتُ حيال أفق الوضع على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية على مستوييْن:
– الأول في ما خص دينامية الحرب المحدودة حتى الساعة وإمكان انزلاقها الى الصِدام الكبير قبل بلوغ الهدنة المفترضة في غزة.
– والثاني في ما يتعلّق بمصير هذه الجبهة بعد أي هدنةٍ وهل تنسحب عليها أم أن اسرائيل ستَمْضي بـ «الضغط بالنار» في سياق «ضرباتٍ تذكيريةٍ» بوجوب تطبيق القرار 1701 الذي تركّز تل ابيب على شقه المتعلق بجعْل جنوب الليطاني منطقة خالية من السلاح والمسلحين، أو أقلّه مرحلياً قيام حزام آمن بعمق 7 الى 10 كيلومترات لا يكون فيه حضور لقوة النخبة في حزب الله (الرضوان) ولا القوة الصاروخية «اللصيقة» بالحدود.
ولم تَخرج أوساط مطلعة عن الاقتناع بأنّ اسرائيل مازالت تُعْلي خيار الحلّ الديبلوماسي وفق القاعدة التي حدّدتْها، وترتكز على أنه يستحيلُ بعد مجرياتِ الأحداث منذ 8 اكتوبر على جبهة الجنوب، وما أفرزتْه من خروجِ سلاح حزب الله ومقاتليه من وضعية «غير المرئي» أي من «تحت الأرض إلى فوقها»، العودةُ إلى ما كان عليه الوضع في 7 تشرين الاول، الأمر الذي يجعل من الملحّ بلوغ ترتيباتٍ جديدةٍ، تُطَمئن سكان مستوطنات الشمال إلى العودة وإلى أن ما حصل في غلاف غزة لن يتكرر عبر جنوب لبنان. ووفق الاسرائيليين فإن هذا يستوجب ظروفاً وشروطاً جديدة يَعمل عليها بهدوء الموفد الأميركي آموس هوكشتاين الذي كان واضحاً بقوله قبل أقل من اسبوعين «ان متطلبات ما يدخل في الاعتبار الأمني (على الجبهة الجنوبية) لم تَعُدْ كما كانت عليه في 6 تشرين الأول (عشية طوفان الاقصى)، ولهذا يتعيّن أن يكون لدينا ترتيب أكثر شمولية يتضمّن مجموعة من الخطوات على المقلبيْن لضمان مثل هذه الإجراءات».
وفي حين تشير معلومات الى أنه ما أن يتمّ بلوغ هدنة في غزة فإن هوكشتاين سيعاود إدارة محركات مهمته المكوكية، وفي جزء منها طرح لصيغة موقتة بابتعاد «حزب الله» عن الحدود مسافة كافية لعودة النازحين على مقلبيْ الحدود، ريثما يكون تبلور الحلّ المستدام على قاعدة بت نقاط الخلاف البري على الخط الأزرق (لم يشتمل طرحه الأولي على أي بحث في موضوع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا)، يزداد حبس الأنفاس بإزاء ما قد تشهده الفترة الفاصلة عن الهدنة التي يُعمل عليها وهل ستسعى تل ابيب خلالها لتكريس وقائع ميدانية مؤلمة، ولو من دون الضغط على زر التفجير الكبير، لتدخل مرحلة التفاوض من موقع أقوى.
وفي موازاة الخشيةِ الدائمة من انزلاقٍ لا إرادي إلى الحرب الشاملة، في ظل توسُّع مدى الاستهدافات الاسرائيلية وصولاً لاشتمالها للمرة الأولى منذ 2006 منطقة بعلبك، في مقابل تنويع «حزب الله» في ضرباته وبلوغها حدود عكا بالتوازي مع مضيّه في «صعق» الاسرائيليين بأسلحة جديدة وبينها التي أسقطت مسيرة هيرميز 450 التي تُعتبر «ميني طائرة حربية»، فإنّ الأوساط ترى أن ما تشهده الأيام الأخيرة ينطبق عليه أكثر عملية تفاوض تمهيدية بالنار ترْبط على الحامي مع مرحلة الهدنة في غزة، وتحاول إرساء نوع من توازن رعب يطبع المسار الديبلوماسي المنتظر.
ولاحظتْ الأوساط نفسها في هذا الإطار، أن تل أبيب ترمي إشاراتٍ متوازية، تتحدث في جزء منها عن أن أي وقف للنار في غزة لن ينسحب على جبهة الشمال، وتشير في جزء آخر إلى أنه «إذا فشلت جهود تطبيق القرار 1701، سيبقى الخيار العسكري قائماً وسيدفع حزب الله ثمناً باهظًا» كما أعلن أمس أوفير جندلمان، المتحدث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، مؤكداً أنّ «سكان شمال إسرائيل سيعودون حتماً إلى منازلهم، وهناك جهود ديبلوماسية للتوصل إلى حل».
أما واشنطن فنقلت بلسان المتحدث باسم خارجيتها ماثيو ميلر عن إسرائيل أنها «أكدت لنا في جلسات خاصة أنها تريد اتباع مسار ديبلوماسي»، مشيراً إلى «أن عشرات الآلاف من الإسرائيليين في الشمال يواجهون خطراً أمنياً حقيقياً يتعين مواجهته، وواشنطن تتبع مساراً ديبلوماسياً لحل المشكلة»، وأضاف: «لا نريد أن نرى أياً من الجانبين يصعّد الصراع في الشمال»، وتابع: «سنواصل اتباع المسار الديبلوماسي، وفي نهاية المطاف، هذا سيجعل العمل العسكري غير ضروري».
وفي موازاة ذلك، كان لافتاً ما نُقل عن «حزب الله» من أنه سيوقف إطلاق النار «إذا وافقت(حماس)على هدنة مع إسرائيل ما لم يستمر قصف لبنان»، وهو ما احتمل تفسيريْن: أوّلهما ان الحزب سيوقف عملياته عبر الجنوب ما أن تسير حماس بالهدنة المفترضة بما يجعل تل أبيب في حال مضت في هجماتها ضدّه في موقع «مكشوفٍ» كمعتدٍ فيكون الحزب بات في وضعية دفاعية، حتى تجاه خصومه في الداخل الذين يأخذون عليه اقحام لبنان في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.
أما التفسير الثاني، فإن حزب الله يحاول استدراجَ ضماناتٍ مسبقة بأن إسرائيل ستتوقف عن استهدافاتها ضدّه خلال الهدنة قبل أن يسلّف «مجاناً» ورقة التهدئة ربطاً بهدنة غزة، ما دامت تل أبيب لمّحت مراراً الى فصل بين الجبهتين، وذلك في محاولة من الحزب لنزع ورقة «الضغط بالنار» من يد الإسرائيليين الذين قد يُبْقون عليها لفرْض «سرعتهم» في ما خص تطبيق القرار 1701، اعتقاداً منهم أن «وهجَ السلاح» والتهديد بالحرب الكبرى سيجعل الحزب، غير المرتاح في الداخل اللبناني، يقدّم تنازلات.