. قد تنفلش، لن تتوسع، ربما تنزلق وربما لن تتدحرج. هكذا هي، وبعبارة بسيطة، حال الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية المعقّدة التي دخلتْ «الخدمة» في 8 أكتوبر، غداة «طوفان الأقصى»، لحساباتٍ تتصل بخيارات «حزب الله» ومن خلْفه إيران. فهو لم يكن في وارد الانغماس في الحرب المفتوحة في غزة لاعتباراتٍ إستراتيجية عبّرت عنها طهران مراراً، كما لم يكن في إمكان قائد المحور (أي الحزب) إدارة ظهره وغسْل يديه، فلجأ إلى جعل خط التماس القائم منذ 18 عاماً ساحةَ مُشاغَلةٍ للإسرائيليين تحت شعار «مساندة غزة».
وبعد مضي أقل من ستة أشهر بقليل على اشتعال الميدان على امتداد نحو مئة كيلومتر من خط النار بين لبنان وإسرائيل وتَحَوُّل طرفي الحدود بعمق ما بين 3 و 5 كيلومترات على المقلبين «مناطق ميتة» يستحيل العيش فيها، تتدافع تطوراتٌ ميدانية لاهبة وأخرى سياسية لا تقلّ ضراوة فوق رقعة خريطة الحرب الأكثر شراسة في الشرق الأوسط منذ نحو 75 عاماً والتي يُشكّل جنوب لبنان واحدة من ساحاتها المتقدمة.
فعلى وهج التطور «النادر» والذي سُجل يوم الاثنين في دفاتر مانهاتن عندما امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت على مشروع قرار يدعو إلى وقف النار في غزة، بغية إمراره رغم الصراخ الإسرائيلي، رفعت تل أبيب من وتيرة «توحُّشها» على جبهة جنوب لبنان عبر توسيع نطاق ضرباتها الجوية بتنفيذ رابع غارة على بعلبك على مدى ستة أشهر، واصطياد مسيَّراتها لسيارة في الصويري القريبة من «خط الإمداد» على الطريق الدولية إلى سورية ومنها في منطقة البقاع، ثم استهداف وادي فعرة في الهرمل لأول مرة.
ولم يكن إنجلى غبار الغارة على منطقة الهرمل، على تخوم الحدود مع سورية، حتى انقشع الضوء فجر أمس الاربعاء على ارتكاب إسرائيل مجزرة ذهب ضحيتها 7 أشخاص وجرح 10 آخرين بعدما استهدفت غارة إسرائيلية مركز «الطوارئ والإغاثة الإسلامية» في بلدة الهبارية (قضاء حاصبيا)، وهو تابع لـ«الجماعة الإسلامية» التي تزايدت مظاهر انخراطها في المواجهة جنوباً عبر ما يُعرف بـ«قوات الفجر».
ورغم التفوق الإسرائيلي في الجو، فإن «حزب الله» الذي تولى الرد على النار بمثلها عبر صليات من الصواريخ في اتجاه ثكن في الجولان ومستوطنات في شمال إسرائيل ككريات شمونة ومرغليوت وتل حاي وكف غلعادي وسواها، مازال على تقديراته بأن حجم «الرد المدمر» الذي يتولاه عبر استخدامه صواريخ برؤوس ثقيلة من شأنه إعادة إسرائيل إلى الانضباط في قواعد الاشتباك التقليدية المتعارف عليها.
الرد الموجع
وعكستْ وسائلُ الإعلام الإسرائيلية حجمَ الرد الموجع الذي تولّاه «حزب الله»، فتحدثت عن سقوط قتيل هو زاهر بشاره من عين قنية نتيجة سقوط أحد الصواريخ على مصنع في كريات شمونة، من بين أكثر من 30 صاروخاً سقطت على المستوطنة أحدثت أضراراً في المصنع وبعض المنازل والطرق، وهي الصواريخ التي طالت مقر قيادة اللواء 769 في إحدى ثكن المستوطنة عينها.
وكشفت دوائر خبيرة على تماس مع مجريات الجبهة المشتعلة في جنوب لبنان لـ«الراي» ان «حزب الله الذي نجح في التقليل من خسائره البشرية عبر إجراءاتِ تحوّطٍ صارمة لم يُسْقِط من حسابه إمكان حدوث أخطاء تكتيكية ويمكن لإسرائيل الموجودة بـ«غزارة»في الجو عبر الحركة الكثيفة لمسيراتها، الإفادة من الثغر لتحقيق بعض الضربات، وهو ما حدث في الغارة على منطقة الهرمل».
ومعلوم ان«حزب الله»اتخذ إجراءات«حديدية»لمنع استخدام الهواتف الذكية وغير الذكية أو حتى استعمال شبكة الاتصالات العائدة له (سلاح الإشارة) ورَفَعَ وتيرة التحوط في الحركة الميدانية لمقاتليه وباشر في مجاراة إسرائيل في حربها الذكية عبر تطوير قدراته على هذا المستوى والزج بها في المواجهة القائمة.
ولفتت الدوائر الخبيرة إلى ان«حزب الله»الذي يستبعد انزلاق الحرب المحدودة على جبهة جنوب لبنان إلى مفتوحة لأسباب تتصل بالواقع الإسرائيلي الحالي، لم يُسقط الفرضيةَ الضئيلة بإمكان بلوغ الجنون الإسرائيلي حدّ ركوب مغامرة الحرب الواسعة ضد لبنان، وتالياً هو -أي الحزب– عمل أخيراً على مضاعفة ترسانته من الصواريخ والمسيّرات في إطار استعداده للأسوأ.
هل يقع الأسوأ ويُقتاد لبنان إلى حرب مدمرة على طريقة«يا قاتل يا مقتول»؟
الدوائر الخبيرة عينها تقلل من هذا الاحتمال وهي ترى في إفراغ منطقة النار على مقلبي الحدود اللبنانية – الإسرائيلية من المدنيين (بين 3 و 5 كيلومترات) عاملاً مساعداً في تقليل خطر ارتكاب الطرفين أخطاء كبرى تستدرج إلى حرب كبرى ما دام لا قرار كبيراً بفتح الحرب على مصرعيها.
وتحدثت تلك الدوائر عن نقص تعانيه إسرائيل، التي تخوض حرباً مفتوحة منذ ستة أشهر في غزة، في القدرات العسكرية (دبابات، صواريخ، ذخيرة) خصوصاً ان دولاً كانت تغذي إسرائيل بقطع الغيار ومساعدات أخرى فرملت معوناتها لتل أبيب لأسباب تتصل بالموقف مما يجري في غزة والأفق المسدود أمام المضي بالحرب (كندا مثلاً)، وهو الأمر الذي يُشكّل محور الاتصالات بين وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت والمسؤولين الأميركيين.
ورغم المقاربة المُطَمْئنة التي تقدمها هذه الدوائر ذات الصلة بمجريات المواجهة في الجنوب فإن معطيات أخرى «غير مطمئنة» تتقاطر إلى بيروت مصدرها واشنطن وباريس وعواصم أخرى، وغالباً ما تتخذ شكل نصائح أو تنبيه أو تحضير وتُجْمِع على ضرورة أخذ التهديدات الإسرائيلية على محمل الجد، خصوصاً في ظل التوتر غير المسبوق في العلاقة بين واشنطن وتل أبيب و«تمرد» إسرائيل على القرار الدولي الداعي إلى وقف الحرب في غزة.
«الأسد الجريح»
وثمة مَنْ يعتقد ان إسرائيل، التي يتعاظم الحصار الديبلوماسي والإعلامي عليها لحربها على غزة قد تزداد تشدُّداً على تشدُّد ما يجعلها تتصرف كـ «الأسد الجريح»، الأمر الذي قد يُترجم بهروبها إلى الأمام في إتجاه حرب شاملة على لبنان بذريعة الخطر الذي يُشكّله التنين الشرس على حدودها (حزب الله) واستحالة عودة مستوطنيها إلى الشمال تحت مرمى صواريخ الحزب وعلى مرأى من قوات النخبة فيه (الرضوان).
ونقطة الارتكاز في هذه المقاربة ان زمام الأمور قد يفلت من يد الولايات المتحدة التي ألزمت إسرائيل في الأشهر الماضية بخطوط حمر تمنعها من توسيع حربها على لبنان، في ظل تطور الأزمة في العلاقة بين واشنطن وتل أبيب.