عادت موجة الغليان السياسي والشعبي إلى الشارع إثر جريمتيّ قتل منسّق القوات في جبيل باسكال سليمان ومن بعده الصراف محمد سرور المدرَج منذ العام 2019 على لائحة العقوبات الصادرة عن وزارة الخزانة الأميركية بتهمة تسهيل نقل الأموال من إيران إلى حركة حماس.
وبإضافة تداعيات الحرب المستمرة على الجنوب اللبناني منذ تشرين الأول 2023، وتصاعد حدّة الدعوات لإيجاد حلّ لأزمة النازحين السوريين ووجودهم في لبنان، يصبح لبنان في قلب بركان سياسي تغذّيه الأزمة الاقتصادية المتواصلة منذ أكثر من 4 أعوام. ومع ذلك، فإن سعر صرف الليرة ما زال ثابتاً عند نحو 89000 ليرة. إلاّ أن ثباته لا يعكس أي استقرار على المستوى الاقتصادي.
الثبات ليس مؤشِّراً على الاستقرار
تخطّى السوق حالة تقلُّب أسعار الصرف منذ نحو عام، لكن الثبات لم يؤدِّ إلى تراجع الأسعار التي كانت تحلِّق تباعاً بحجّة تقلّب سعر الدولار وعدم توفّره في السوق. فالتضخّم على أساس سنوي، بلغ 181.8 بالمئة، ما يعني أن الأسعار لا زالت مرتفعة، سيّما أسعار الغذاء والسكن، والتي تشكِّل الأكلاف الأساسية للعائلات. وبحسب أرقام “الدولية للمعلومات”، فإن كلفة السلة الغذائية تتراوح بين 250 و300 دولار، في حين أن كلفة السكن تتراوح بين 150 إلى 300 دولار، مع مراعاة الفروقات في الأكلاف بين الريف والمدينة.
ولم ترتفع تلك الأكلاف بفعل شحّ الدولار واضطرار المواطنين للبحث عن العملة الخضراء في السوق السوداء، فالدولرة سيطرت على السوق وباتت الأسعار بالدولار، وما يُدفَع بالليرة يُحتَسَب وفق سعر الدولار، فلم يعد هناك حاجة للبحث عن أوراق الدولار النقدية. وعليه، فإن ثبات سعر الصرف لم يساعد في استقرار الأسعار، وهو مؤشِّر يعيدنا إلى ما قبل العام 2019 حين كان سعر الليرة ثابتاً بفضل سياسات حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة. وتحت غطاء الثبات، كانت المؤشرات السياسية والاقتصادية تدل على الخراب الآتي.
المعطيات مكشوفة
لا يوجد أسرار في هذا البلد. وما يُخفى في فترة معيَّنة، تكشفه بعض الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية. فالبلد المستقر ظاهرياً منذ مطلع التسعينات، هو في الواقع يغلي على نارٍ هادئة كان يضبطها التوافق الإقليمي والدولي. ومع تغيُّر التوازنات بدءاً من العام 2005، لم يعد بالإمكان التستُّر عن الفجوات الاقتصادية، رغم إصرار السلطة السياسية ورياض سلامة على تثبيت سعر الليرة مهما كلَّفَ الثمن من دولارات المودعين. وأصرَّ على سياساته رغم أن البلاد وصلت في العام 2019 إلى طريق مقفَل. ومع ذلك، أكّد سلامة في حزيران 2019 خلال مؤتمر “يوروموني” في بيروت، أن “أفق التوقّعات سيتحسَّن بالنسبة لاقتصاد لبنان. والسيولة ستتحسَّن في الأشهر الستة المقبلة”. وحينها كان معدَّل النمو صفر بالمئة منذ بداية العام.
الأحداث السياسية والأمنية التي بدأت باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في العام 2005، كانت تقول بأن لا عودة للوراء. وإن كان القرار السياسي مرتبط بما يجري في المحيط والعالم، إلاّ أن القرار النقدي والمالي كان يمكن اتخاذه في الداخل وتحصين الاقتصاد طالما أن المعطيات السياسية والأمنية لم تكن جيّدة.
فاغتيال الحريري واندلاع حرب تموز 2006 ساهما بتعزيز التراجع الاقتصادي. فالنمو الحقيقي تراجع من 2.7 بالمئة عام 2005 إلى 1.6 بالمئة عام 2006، بعد أن كان 5.06 في العام 2004. في حين ارتفع الدين العام من 180.7 بالمئة عام 2005 إلى 185.19 بالمئة عام 2006.
أما الطفرة الاقتصادية التي حقّقها لبنان بين العامين 2008 و2010، فلم تكن على أرضٍ صلبة إذ لم يواكبها إجراءات اقتصادية وسياسات نقدية ومالية تستفيد من تدفّق التحويلات الخارجية الآتية إلى لبنان بفعل تأثُّر أغلب اقتصادات العالم بالأزمة المالية في العام 2008. ولذلك، سقطَ النمو المحقَّق في العام 2010 عند مستوى 8 بالمئة إلى نحو 2 بالمئة في العام 2011 وصولاً إلى 1 بالمئة عام 2013، وفق أرقام اتحاد المصارف العربية.
أتى الشغور السياسي بين العامين 2014 و2016 وما رافقه من تشنّجات بين القوى السياسية قبل الاتفاق على ترشيح رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، ليُكمِلَ أحداث مسلسل التراجع الاقتصادي. وللتذكير، فإن سعر صرف الليرة بقي ثابتاً، ومع ذلك، أكّد رئيس تجمع رجال الأعمال اللبنانيين فؤاد زمكحل في حديث لـ”المدن” في العام 2015، أن ما يحصل في لبنان على المستوى السياسي والاقتصادي “يضرب صدقيتنا الدولية، في حين أننا نحاول كرجال أعمال، جذب متمولين ومستثمرين”. وأظهَر زمكحل أن “الإستثمارات الخارجية في لبنان إنخفضت من 4.84 مليار دولار، أواخر عام 2013، إلى 2.5 مليار في أواخر عام 2014. وخلق فرص العمل بقي في حدود الـ3000 وظيفة سنوياً في حين نحتاج إلى أكثر من 20 ألف فرصة”.
الفرص الضائعة
بالاستناد إلى ثبات سعر صرف الليرة ومتانة القرار السياسي، تجاهَلَت السلطة احتمالات الانفجار. مع أن وكالات التصنيف الائتماني كانت تخفِّض تصنيف لبنان، فتراجع التصنيف في العام 2015 من B- إلى CCC، ووصل النمو إلى صفر بالمئة مع ارتفاع عجز ميزان المدفوعات.
لكن الكلام المباشِر كان لأحد مسؤولي صندوق النقد الدولي، كريس غارفيس، الذي زار لبنان على رأس وفد من 7 إلى 13 أيلول 2017 لاستعراض التطورات الاقتصادية والمالية وتقييم الآفاق الاقتصادية ومناقشة أولويات السياسات. وختم غارفيس زيارته ببيان أكّد فيه أن “الأوضاع الاقتصادية في لبنان لا تزال محفوفة بالتحديات. والعجز الكبير في الموازنة يبقى مصدراً للتعرض للمخاطر، فأدى إلى بلوغ الدين العام 148 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي في 2016. وسوف تزداد نفقات المالية العامة كثيراً في ظل الزيادات في سلسلة رواتب القطاع العام”.
حاولَ غارفيس تذكير ساسة لبنان وحاكم مصرفه المركزي بأن استعادة زمام الأمور ممكن عن طريق “وضع الاقتصاد على مسار قابل للاستمرار ووقف ارتفاع الدين العام. ولذلك، يتعين تصحيح أوضاع المالية العامة في البداية بالارتكاز على تدابير زيادة الإيرادات، وتحسين مستوى الامتثال الضريبي، ورفع الضرائب على الوقود، واستعادة توازن الإنفاق بوسائل منها الحد من التحويلات المكلفة إلى شركة الكهرباء”، لكن بدون جدوى. فكانت هذه إحدى أبرز الفرص الضائعة. على ان آخرها كان في مؤتمر سيدر في العام 2018، حين رفض لبنان إجراء الإصلاحات كمقدّمة للحصول على قروض وهبات بنحو 11 مليار دولار.
اليوم، يعوِّل المسؤولون على الاستقرار الظاهري لسعر صرف الليرة، للقول بأن الأمور تتحسَّن. لكن ما زالت المعطيات سلبية. من فراغ في رئاسة الجمهورية، إلى حكومة تصريف أعمال مكبَّلة، إلى ضغوطات ملف النازحين السوريين واحتقان الشارع إثر أحداث الخطف والقتل. ولذلك، ما يحاول المسؤولون إخفاءه، لم يعد مجهولاً.