على وقع تكرار التهديدات “الاسرائيلية” للبنان، وفي ظل ارتفاع “نسق” عمليات رد حزب الله على الاعتداءات “الاسرائيلية” ووصول مسيّراته الى عكا، ومع ارتفاع القلق “الاسرائيلي” من مفاجآت المقاومة، خصوصا في ما يرتبط بالسلاح المضاد للطائرات بعد اسقاط المزيد من المسيّرات المتطورة من نوعي “هيرمز 900” وهيرمز 450″، وسط اقرار بالعجز عن مواجهة هذا السلاح ، يصل وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه يوم السبت الى بيروت، في بداية جولة ديبلوماسية جديدة يتطرق فيها خصوصاً إلى الوضع في الجنوب، وهي الثانية له بعد زيارة أولى مطلع شباط الى المنطقة بعيد توليه منصبه. فهل لدى باريس جديد؟ وما هي المقترحات التي سيحملها معه؟ وهل هي منسقة مع الاميركيين اصلا؟
في الشكل اولا، تشير اوساط ديبلوماسية الى ان باريس لا يبدو انها تتعلم من اخطاء الماضي، وتصر على احراج نفسها عندما تحاول ان تتقدم الصفوف لاحداث اختراقات على الساحة اللبنانية في التوقيت الخاطىء، ولكن في ظل “البطالة” السياسية السائدة في الادارة الفرنسية التي فقدت وزنها السياسي والديبلوماسي، وتحولت الى مجرد “كومبارس” وملحق في الاستراتيجة الاميركية، وناقلة للرسائل وليس صانعة للسياسات.
وما يظهره الشكل من “طفولية” سياسية، يزيده المضمون سوءا، برأي تلك الاوساط، فبدل ان تخفف باريس من الاوزان التي تثقل كاهلها، يعود سيجورنيه حاملا “بطيخة” مثلثة الاضلاع لا ترتبط فقط بالوضع المتفجر جنوبا، وانما ايضا بملف الانتخابات الرئاسية وقضية النازحين السوريين. ولعل اكثر ما يؤكد عدم النضج لدى الادارة الفرنسية، تفاخر ماكرون امام زائريه انه يتحرك دون تنسيق مسبق مع واشنطن، وهو يقاوم محاولتها التفرد بإدارة الملف، وبانه مقتنع بامكانية فصل المسار اللبناني بتشعباته عن الحرب في غزة. علما ان الاميركيين سبق وتعاملوا ببرودة مع اقتراح فرنسي لتوحيد جهود المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين والمبعوث الفرنسي جان إيف لودريان، واصروا على اولوية تطبيق القرار 1701 وعودة الهدوء ثم البحث في الملفات الاخرى المتعثرة.
وفي هذا السياق، يتبين انه لا “ضوء اخضر” اميركي للحراك الفرنسي، ما يعني اننا سنكون امام حالة من المراوحة في مجمل الملفات الى ان تضع الحرب اوزارها. ووفقا للمعلومات، وضع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في اجواء الحراك الجديد الاسبوع الماضي، دون ان يقدم اي تصورات جديدة يمكن البناء عليها في الملفات الثلاثة، وكان واضحا من اجواء المحادثات ان الافق مسدود على المسارات الثلاثة، لكن ماكرون يصر على ابقاء بلاده في “الصورة”، على الرغم من ادراكه المسبق للفشل.
وانطلاقا مما تقدم، سيحاول الفرنسي “تجميل” صورته من خلال ورقة تعديلات على المقترحات الفرنسية القديمة تتضمن تصور “لليوم التالي” للحرب، من خلال “تجميل” تطبيق القرار 1701 دون ان تغير الموافقة اللبنانية من عدمها في الوقت الراهن الكثير، في ظل اصرار حزب الله على عدم منح “اسرائيل” اي هدايا مجانية في توقيت خاطىء، وهو معني في ابقاء الطرف الآخر مستنفرا ومتوترا، ولا يملك ادنى فكرة عما ينتظره بعد توقف الحرب على غزة، جنوب نهر الليطاني وشماله.
اما ما يرتبط بالشأن الرئاسي فالملف معقد لكثرة “الطباخين”، حيث لن تسمح اي دولة معنية لباريس بالتفرد في ايجاد تسوية، واذا كان التفاهم الايراني- السعودي لم ينضج بعد، ولا تزال واشنطن تحتفظ بالاستحقاق كورقة مساومة على ملفات اخرى، فان الدور الفرنسي يبدو متواضعا جدا، خصوصا بعدما فقدت باريس خاصية تفردها كدولة غربية، بفتح قنوات اتصال مع حزب الله، وهو دور مستمر ولكنه تعرض “للتهشيم” بعد المواقف الفرنسية المتطرفة في دعم “اسرائيل” في غزة، وفي صد الهجوم الايراني، وكذلك في تبنيها للمقترحات “الاسرائيلية” على “العمياني” في الطرح الاول حول تطبيق الـ 1701. بمعنى آخر، فقدت باريس ثقة حزب الله الذي لم يقطع خطوط التواصل معها، لكنه ترجم “غضبه” بخطوات عملانية اوصل من خلالها “رسائله” الى حيث يجب ان تصل.
ولان “المكتوب يقرأ من عنوانه”، لا يبدو ايضا ان باريس جاهزة لاحداث نقلة نوعية في سياستها ازاء ازمة النزوح السوري، ولا تزال تتبنى وتقود الموقف الاوروبي المتشدد، ووفقا للمعلومات، لن يحمل رئيس الديبلوماسية جديدا يساعد على ازاحة عبء النزوح عن كاهل لبنان، ويبقى امل وحيد في ان تكون باريس جاهزة وقادرة على تقديم مساعدات جدية، باتت ملحة للمؤسسة العسكرية لوجستيا وماديا، تحت عنوان اعداده للعب دور اكبر في الجنوب بعد نهاية الحرب، وهو امر بحث جديا في زيارة قائد الجيش جوزاف عون الى فرنسا الاسبوع الماضي، وعند هذه النقطة ايضا يجب انتظار مدى الهامش المسموح اميركيا لباريس للعب هذا الدور الملقى على عاتقها، والتي لا تقبل واشنطن ان ينافسها احد عليه.
وفي الخلاصة، لا تعويل على الحراك الفرنسي لتحقيق نقلة نوعية، فهي مكبلة في ملفات رئيسية، وما بعد زيارة سيجورنيه ستكون كما قبلها بانتظار الحسم على “طاولة” الكبار ،حيث انطلقت عجلة التفاهمات الديبلوماسية الكبرى التي ستأخذ وقتا ولكنها بدأت، تزامنا مع “الكباش” الميداني القاسي الذي قد لا يخلو من المفاجآت. وبالانتظار، لا يختلف اثنان على ضعف موقف باريس التي يتحرك وزير خارجيتها تجسيدا للفكرة الفلسفية القائلة “انا اتحرك فاذا انا موجود”، لا اكثر ولا اقل!