إتجار بالمخدرات والبشر وتهريب.. بين لبنان وسوريا

… غالباً ما تقفز الحدود اللبنانية – السورية السائبة إلى دائرة الضوء على وقع قضايا شائكة تطلّ برأسها من خلف التضاريس الوعرة في الجغرافيا والسياسة على هذه الحدود غير المحدَّدة بفعل «ممانعةٍ» سورية دفينة تعود إلى موقف «أيديولوجي» من لبنان – الكيان.

وتُشكّل المعابر غير الشرعية على الحدود اللبنانية – السورية علامةً فارقةً بعدما تحوّلت ملاذاً للتهريب والإتجار بالبشر والأعمال الإجرامية المنظّمة… سلاحٌ وسياراتٌ وأشخاص وكبتاغون وبضائع ومخدرات، الأمر الذي يجعلها دفرسواراً خطراً في الأمن والاقتصاد والسياسة و… على سمعة لبنان.

وإذا كانت الإصلاحاتُ الشَرْطية التي يُدْرِجُها المجتمع الدولي في أي خططٍ لإخراج لبنان من الحفرة تنطوي على مطلبٍ إستراتيجي بضرورة ضبط الحدود اللبنانية – السورية لمنْع تدفق السلاح إلى «حزب الله» وعبور المخدرات إلى بيروت ومنها إلى الخارج وسدّ سُبل تهريب السلع لاسيما الحيوية إلى سورية، فإن ملف تلك الحدود كاد أن ينفجر أخيراً مع جريمة قتل مسؤول في «القوات اللبنانية» (باسكال سليمان) في جبيل ونقْل جثته عبر المعابر غير الشرعية إلى سورية، وتَحَوُّل قضية النازحين السوريين وتسلُّلهم حَدَثاً ينافس الحربَ الدائرة في جنوب لبنان.

350 كيلومتراً

أكثر من 350 كيلومتراً طول الحدود بين لبنان وسورية. حدودٌ تتشابك في بعض البلدات والقرى والجرود وتتوارى في مساحاتٍ واسعة، وغالباً ما تبقى مفتوحةً ومشرَّعةً على امتداد مسافات طويلة تاركةً المجال لتَداخُل غير شرعي بين البلدين.

نقاطٌ حدودية واضحة ومَعابر شرعية معترَف بها، لكن العلاقات و«المصالح» المتداخِلة على طرفيْ الحدود عزّزتْ المعابر غير الشرعية التي لا يعترف بها أو يدّعي أبوّتها أحد لكنها تنمو وتزدهر في الظِل لتشكّل مصدر خطر يلقي بثقله على لبنان.

136 معبراً

يصعب في رأي الخبراء الأمنيين إحصاء عدد المعابر غير الشرعية وإن كان تقرير سابق للحكومة اللبنانية قدّرها بـ 136 معبراً. فالحدود واسعة وغير مراقَبة بشكل فعّال في غالبيتها، وأي مساحة فيها يمكن أن تشكّل مَنْفذاً للعبور إلى المقلب الآخَر.

حدودٌ متعرِّجة وَعِرة تتخلّلها جبالٌ ووديان وأماكن سهلية بحيث يصعب إحكام المراقبة عليها وتحتاج إلى عديد كبير من العناصر البشرية والتجهيزات الإلكترونية للمراقبة.

والنقاط الأكثر استخداماً للعبور غير الشرعي بين البلدين باتت معروفةً وتحمل أسماء متداوَلة وقد سَعَتْ «الراي» للاستعلام عن أبرزها وما خَفِي منها.

في منطقة عكار (الشمال) وفي جرد القيطع تحديداً ثمة معبرٌ خَطِر يمتدّ صعوداً على خط مشمش، فنيدق ثم مرجحين التابعة عقارياً للبقاع. فعكّار على تماسٍ مع الهرمل، المنطقة التي تحوي أكبر عدد من المطلوبين للعدالة والخارجين عن القانون (الطفار). وهذا الخط، كما علمت «الراي» من شخصيةٍ عكارية على اطلاعٍ بمجريات الأمور في منطقتها، يشهد ضغطاً كبيراً لاسيما في عمليات سرقة السيارات وتهريب المخدّرات كما تهريب السوريين الى الداخل اللبناني.

ويشير المصدر العكاري إلى أن هذا الطريق هو الذي سلكه المجرمون الذين أوْدوا بحياة باسكال سليمان إذ عبروا من طرابلس إلى مفرق ببنين فبرقايل صعوداً نحو الجبال ثم مشمش وفنيدق وبعدها مرجحين في الهرمل ومن ثم سورية وذلك بشكل محترف يدلّ على تَمَرُّسهم في استخدام هذا الطريق والتنسيق في ما بينها.

وكانت لمخابرات الجيش اللبناني سابقاً، كما يقول المصدر، نقطة تفتيش ومراقبة في منطقة الصدقة بيت أيوب قبل فنيدق كانت تتشدد في المراقبة لكنها أزيلت قبل نحو عام ما جعل الأمور تتفلت «فالمهرّب لم يعد يواجه أي نقطة تفتيش أو حاجز أمني وبات بإمكانه سلوك هذا الطريق بلا خطر.

وقد صارت المنطقة العكارية مرتعاً لشبكات تهريب تتعاون مع شبكات من البقاع مكوّنة في غالبيتها من أبناء عشائر. وتتم سرقة السيارات من جبل لبنان فيتسلّمها شباب من عكار وينقلونها إلى البقاع. وهناك من معبر القصر المفتوح على سورية تتولى شبكات سورية تصريفها.

وعبر هذا الخط ذاته يجري إدخال المخدرات من البقاع إلى عكار فطرابلس بحيث أصبحت مشكلة كبيرة تعانيها كل منطقة الشمال».

وإذا كان هذا الجزء من عكار ليس على تماسٍ مباشر مع سورية ويحتاج العابر منه إلى المرور حُكْماً بمنطق الهرمل، فإن الحدود الممتدة في منطقة وادي خالد متداخلة في شكل كبير مع الأراضي السورية وهي حدود طويلة وخطرة تمتدّ على مسافة 18 كيلومتراً.

وصحيح أن الجيش وفق ما علمت «الراي» من مصادر محلية نصب نقاط تفتيش في وادي خالد كحاجزيْ الدويمة ومنجز، لكن ثمة خطوط التفافية وطرق خلفية يستخدمها المهرّبون لتفادي حواجز الجيش وأبراج المراقبة المنصوبة على الحدود والتي تم تقديمها من البريطانيين وساهمت في الحد بعض الشيء من التهريب ولكنها لم تمنعه.

المنطقة باتت موئلاً لتهريب البشر والمخدرات والمواد المتنوّعة لاسيما أنها في الأصل تضمّ الكثير من صلات القربى بين العائلات السورية واللبنانية إضافة إلى وجود كثيف للبدو. وشكّلت الأزمة الاقتصادية الضاغطة سبباً أساسياً لازدياد أنشطة التهريب لاسيما إدخال السوريين كما يروي لـ «الراي» أحد أبناء قرية الجندولة (وادي خالد) حيث يسأل المهربون أبناء القرى الذين يملكون سيارات أن ينقلوا بعض الأشخاص من البقاع إلى عكار ويدفعون 100دولار على الشخص بحيث يحصّل صاحب السيارة مبلغ 400 دولار في نقلة واحدة لأربع أشخاص. كما تنشط رحلات الفانات التي تنقل السوريين الذين تم إدخالهم خلسة ولكن بطريقة شبه منظّمة من سورية ألي لبنان وتقودهم إما إلى طرابلس أو إلى مناطق أخرى في عكار.

على الحدود الشمالية حيث يفصل النهر الكبير الجنوبي بين لبنان وسورية، ترتفع أشجارٌ على امتداد النهر من الجهتين تجعل التخفّي بينها سهلاً بحيث تصبح عملية الانتقال بين البلدين للأشخاص ممكنة وسهلة وكذلك عمليات تهريب البضائع والأشخاص والمخدرات. وقد علمت «الراي» من مصدر أمني سابق أنه تم تمديد قساطل بلاستيكية تمتدّ على كيلومترات وتعبر النهر لتسهيل عملية تهريب المحروقات من لبنان إلى سورية.

وتحوّل التهريب في هذه المنطقة لاسيما بالنسبة للمواد التي لم تعد موجودة في سورية أو التي كانت مدعومةً في لبنان تجارةً رابحة يتهافت عليها العديد من أبناء المنطقة.

وبالانتقال إلى منطقة البقاع تصبح المعابر غير الشرعية مشرّعة شعبياً، لا أسرار تُخْفيها ولا مخاوف تحوط بها. أبناء البقاع الأوسط والشرقي يسلكونها ويروون أخبارها كما لو كانت تجارة عادية بين البلدين.

في الهرمل كما روى أحد أبناء المنطقة البارزين ثمة معبران للمرور «شبه شرعييْن»: واحد يُعرف باسم إحدى العائلات المعروفة ويمرّ من الهرمل نحو منطقة ربلة السورية والمسؤول عنه فرد من عائلة ح.ح. وهذا المعبر تغلقه وتفتحه بوابة كهربائية يتحكّم بها الشخص المذكور بالريموت كونترول من داخل بيته! وثمة معبر آخر مخصص لأفراد من «حزب الله» يستخدمونه للعبور من سورية وإليها.

ومن المعابر المعروفة واحد بين بلدة حوش السيد علي وبلدة القصر صوب قبوع الهرمل يُستخدم بشكل واسع للتهريب. وثمة نقاط عبور عدة في المنطقة يتم سلوكها سيراً على الأقدام أو بواسطة الدراجات النارية أو حتى على ظهور الدواب لتسهيل مرور الأشخاص والبضائع.

لجهة عرسال واللبوة ورغم وجود قوي للجيش فيها وتفكيكه للكثير من نقاط العبور والمعابر غير الشرعية، ما زالت هناك نقاط عبور عبر الجرود يَستخدمها المهربون نظراً لوعورة المنطقة وامتدادها الجغرافي الواسع. أما في البقاع الأوسط فمنطقة المصنع ومحيطها كما منطقة عنجر وبلدات بر إلياس وقب الياس، تشكل كلها منطلقات لمعابر غير شرعية. ويروي أحد أبناء المنطقة أن الجيش اللبناني موجود حتى حدود معينة وبعدها تصبح المساحات غير خاضعة لأي رقابة.

وثمة قرى لبنانية تقع بعد آخِر حاجز للجيش أو نقاط لبنانية يَسكنها سوريون احتلّوها وتسلّطوا عليها. وحين يَدخل السوريون خلسةً عبر بعض النقاط بعد أن يدفعوا لأطراف لبنانية أو سوريّة «تسيطر» على المكان، يتم نقلهم عبر فانات شرعية تعبر حواجز الجيش على أن ركابها من أبناء المنطقة. ونادراً ما يتم التدقيق في هويات ركّابها إلا إذا عاكستْهم الصدفة.

على امتداد الحدود البقاعية التي تعمل عليها شبكات تهريب، تم تقسيم النفوذ طائفياً. فالمناطق التي يَغلب فيها الوجود الشيعي مثل الهرمل يكون المهرّبون من عشائر شيعية ويستقوون بوهج نفوذ «حزب الله» وحركة «أمل» مع وجود لأقليات مسيحية من المهرّبين من أبناء المنطقة وفق ما يشرح لـ «الراي» أحد المخاتير.

أما في المناطق السنية مثل عنجر والمصنع وبَر إلياس وعرسال، فالمهرّبون من أبناء الطائفة السنية، وسط همْسٍ عن غضِّ نظرٍ رسمي في بعض الأحيان يتم توظيفُه من أجهزة الدولة لتوقيف الأشخاص المطلوبين الذين يحاولون عبور الحدود.

قد تكون الحدود مشرَّعةً أمام التهريب على أنواعه وأمام الشبكات الإجرامية التي تُعنى بسرقة السيارات والخطف والاتجار بالبشر، لكن مهما بدت الأمور متفلّتة فإن الجيش اللبناني بمخابراته وبالتعاون مع شعبة المعلومات والأجهزة الأمنية الأخرى قادر متى أعطي الضوء الأخضر على ضبط الأمور والحد من التفلت. وسبق له أن أحبط مرات عدة محاولات تهريب كميات من المخدرات كما أوقف وأعاد إلى سورية أعداداً من السوريين الذين دخلوا خلسة وحتى لو تمت إعادة إدخال بعضهم من معابر أخرى.

الفلتان

… «الحدود السائبة تعلّم الناس على الحرام». يصحّ إسقاط هذا القول على المعابر غير الشرعية المشرّعة لموبقات، خصوصاً المخدرات وحبوب الكبتاغون التي باتت صناعةً وتجارة تدرّ المليارات لشبكات فطرية «محمية» على مقلبي لحدود وتضرّ بعلاقات لبنان مع دولٍ شقيقة وصديقة سبق أن قابلت التلكؤ اللبناني عن ضبط الفلتان وتحويل «بلاد الأرز» ممراً لشحناتٍ فتّاكة إليها بـ «عين حمراء» كادت أن تودي بتاريخ من علاقات لم تهتزّ يوماً.

أسباب الفلتان الحدودي

أسباب كثيرة تقف خلف فلتان الحدود بين لبنان وسورية يشرحها لـ«الراي» العميد المتقاعد في قوى الأمن الداخلي والحائز على دكتوراه في الحقوق والمتخصص في القانون الجزائي عادل مشموشي.

ويقول مشموشي: «لا شك في أن الامتداد الكبير للحدود بين لبنان وسورية وتَعَرُّجها ووعورة تضاريسها وتنوُّعها والتداخل بين القرى اللبنانية والسورية الذي يسهّل عمليات الفرار من الجهتين يجعل من الصعب إحكام المراقبة عليها كونها تحتاج إلى عدد كبير من العناصر.

لكن المشكلة الأساسية تكمن في كون الجيش اللبناني المفترَض به حماية الحدود زُجّ بمَهمات داخلية بين الأحياء والأزقة هي في الأساس من اختصاص القوى الأمنية، في حين أن دوره واهتمامه الرئيسي ينبغي أن يكون منصبّاً على الدفاع عن الوطن سواء على الحدود الجنوبية أو ضبط المعابر غير الشرعية على الحدود الشمالية والشرقية. من جهة ثانية ثمة نقص في التجهيزات سواء بالنسبة للمعدات العسكرية والأسلحة والآليات أو بالنسبة لأجهزة المراقبة سواء البشرية أو الإلكترونية المتخصصة، وذلك بسبب عجز الدولة اللبنانية عن تأمينها نتيجة الظروف المالية المعروفة».

ويؤكد العميد مشموشي «أن النشاطات الإجرامية التي تحدث عبر معابر التهريب ليست حالات فردية بل نحن أمام شبكات إجرامية متعددة الاختصاصات، من تهريب الأشخاص والاتجار بالبشر إلى تهريب المواد المدعومة والمخدرات وسرقة السيارات.

ويزداد نشاط هذه الشبكات في مناطق بعلبك والهرمل ووادي خالد لأنها في الأساس موئل لمطلوبين من العدالة باتوا يملكون خبرة واسعة في مجال الأسلحة والمخدرات والأنشطة الإجرامية الأخرى.

وتضم الهرمل العدد الأكبر من المطلوبين الفارين من وجه العدالة وهؤلاء بفعل وضْعهم لديهم ميل إلى الانحراف والتوجّه نحو نشاطات إجرامية منظمة. أما بالنسبة إلى وادي خالد فإن تجارة الكبتاغون هي الطاغية حيث تُصنع المادة في سورية وتٌهرب إلى لبنان، وقد بات هناك تعاون تصنيعي بين الجهتين. وانتقل التصنيع إلى منطقة بعلبك الهرمل حيث تنشط الشبكات السورية التي ازدادتْ أعداداً ونشاطاً بسبب تردي الأوضاع المعيشية في سورية. ومعروف أنه كلما تفشّت ظاهرة المخدرات ازدادت أعداد الأشخاص أصحاب الانحرافات السلوكية وميلهم للإجرام المبني على العنف».

ويضيف: «الدولة اللبنانية لا يمكنها مقاربة مسألة التفلت الأمني على الحدود على نطاق أفراد بل يجب العمل بشكل أوسع على أرض الواقع وخارج الأطر الديبلوماسية المعهودة وإنشاء غرف عمليات محلية ومركزية لتتبُّع أنشطة الشبكات على الحدود وتَبادُل المعلومات بغية كشف هذه الشبكات وتوقيف أعضائها لتأمين الأمن الوقائي واستباق الجرائم بدل التحرك بعد وقوعها. ولكن ما نراه اليوم هو التركيز على الجرائم المهمة وكأن الأجهزة سبّاقة إلى الشهرة، في حين أن الجرائم اليومية التي تَحدث والنشاطات الإجرامية على الحدود لا أحد يقاربها».

ويختم العميد مشموشي: «حل مشكلة التفلت الأمني على الحدود يجب أن لا يقتصر على الفروع الفنية مثل المخابرات أو«المعلومات» بل ينبغي تفعيل دور المَخافر وإحياء عمل مختلف القطاعات الأمنية لتوحيد الجهود بغية ضبط الوضع الأمني. ويلعب الاستعلام الأمني من الأجهزة الأمنية لاسيما الأمن العام دوراً كبيراً لجمْع وتحليل المعلومات عن الشبكات الضالعة. ولكن تبقى دراسة العمليات على الأرض ووضْع خطط قابلة للتنفيذ على أيدي أشخاص جديرين بالثقة ويملكون الشجاعة والخبرة عاملاً مهماً للحدّ من النشاطات الإجرامية وتفلُّت الحدود».

اترك تعليق