ولد أحمد أبو دلة في قرية يارين اللبنانية قبل أن يطلق على الأراضي الواقعة إلى الجنوب اسم إسرائيل. كان يأمل أن يقضي أيامه الأخيرة هناك، ولكن بعد مرور 80 عاماً، ومع تعرض مسقط رأسه للقصف الإسرائيلي، أعطاه أبناؤه خياراً لا رجعة فيه: إما أن يرحل عن يارين أو أن يأتوا للعيش معه والموت معه.
وقال «تفتكري أنا اللي قررت؟ ولادي. حطوني بخيار. يا تنزل يا منطلع… هيدا اللي خلاني انزل (انتقل)».
كان أبو دلة وشقيقه الأصغر آخر سكان يارين الذين ما زالوا يعيشون هناك هذا الربيع. نزحت معظم العائلات في أكتوبر (تشرين الأول) بعد وقت قصير من بدء الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.
وقال أبو دلة لوكالة (رويترز) للأنباء والدموع تغرق عينيه وهو يصف المنزل الذي بناه في يارين وتحيط به مزرعته الخاصة ومجموعات من الماشية «يللي خلاني اصمد… التربة (الأرض)… في ناس ما عندها جذور الأرض. ما تعبانة بالأرض عايشة – بس يللي بني حبة حبة، تصوري واحد يعيش 80 سنة بأرضه». وأضاف «الأرض اللي بنبني فيها إذا بتبرمي (تقلبي) التراب بتلاقي آثار ايدينا فيه».
وبحسب المنظمة الدولية للهجرة، نزح أكثر من 95 ألف شخص من جنوب لبنان منذ اندلاع الحرب، وعلى الطرف الآخر من الحدود في إسرائيل، نزح 60 ألفاً من منازلهم.
ولكن على عكس إسرائيل، حيث تدفع الدولة ثمن الإقامة في الفنادق وغيرها من المساكن المؤقتة للنازحين بسبب الحرب، لم تتلق العائلات في لبنان سوى دعم ضئيل من الدولة وأحياناً لم تحصل على أي دعم على الإطلاق.
ووفقاً للمنظمة الدولية للهجرة، يسكن أكثر من 80 في المائة من النازحين في لبنان مع أقاربهم أو أصدقائهم. ويؤجر 14 في المائة منهم منازل ويعيش اثنان في المائة فقط في ملاجئ جماعية.
وسكان يارين من بين الأغلبية الذين انتقلوا للعيش مع أقاربهم، وهذه ليست المرة الأولى.
ويتذكر العديد من سكان القرية الفرار من يارين عام 1978، أثناء التوغل العسكري الإسرائيلي في السنوات الأولى للحرب الأهلية في لبنان.
وسافروا إلى مدينة صيدا الساحلية مروراً بعدة بلدات في الجنوب وصولاً إلى منطقة الشوف الجبلية قبل أن يستقروا في نهاية المطاف على مشارف البيسارية على بعد 50 كيلومتراً شمالي مسقط رأسهم وبنوا منازل متواضعة.
ومع استقرار المزيد من سكان يارين هناك في الثمانينات، مدوا شبكتهم الخاصة من أنابيب المياه وبنوا مدرسة، ما أكسب المنطقة اسم «حي يارين» في البيسارية.
«ناس عندها خوف»
سامر أبو دلة، ابن أخت زوجة أحمد، من مواليد «حي يارين» خارج البيسارية عام 1979. أصبح معلماً وبنى منزلاً في قرية يارين عام 2011 ليعيش فيه مع زوجته وأطفالهما الستة معتقداً أن الأوضاع على الحدود استقرت بعد الحرب التي استمرت شهراً بين حزب الله وإسرائيل عام 2006. لكنه عاد الآن إلى «الحي» بعد فراره من القصف على الحدود.
وقال «نحن كتجربة بالهجرة، أول ما طلعوا أهلنا، قالوا يومين وبنرجع، فهذا الشعور أو التجربة السابقة بتضل تسير كأنها معلومات تتوارثها الأجيال، منقول يومين ومنرجع وقعدنا تلاتين سنة لرجعنا».
وقال أمام منزل والدته المتواضع على مشارف البيسارية حيث يقيم الآن «هذا الشعور فيه بعض ناس عندها خوف منه».
ينام ابنا سامر الصغيران على الأريكة منذ شهور، بينما يعيش هو وزوجته وبناتهما الأربعة في غرفة نوم واحدة. لم تكن الطاولة في مطبخ والدته كبيرة بما يكفي لاستيعاب 11 شخصاً يعيشون هناك الآن، لذا كانت تقدم كل وجبة على مرتين للتأكد من أن الجميع يتناولون طعامهم وهم يجلسون.
وقال سامر إن هناك ما لا يقل عن 70 عائلة مثل عائلته فرت من يارين وعادت الآن إلى البيسارية، وإن مواردهم الضئيلة لا تكفيهم.
ويعاني اللبنانيون بشدة جراء الانهيار الاقتصادي المستمر منذ خمس سنوات والذي أدى إلى تجميد مدخراتهم في البنوك وخفض قيمة الليرة، وأجبر الدولة على رفع الدعم الذي كان في السابق يجعل بعض الخدمات الأساسية في متناول الجميع.
ولم تعلن الحكومة اللبنانية عن مدفوعات أو أشكال أخرى من الدعم للأسر التي تأثرت بتبادل إطلاق النار مع إسرائيل، في حين وزع «حزب الله» بعض المساعدات المالية وسدد الإيجارات عن بعض العائلات.
وقالت عائلة أبو دلة إنها حصلت على سلة غذائية من مجلس الجنوب، وهو جهة رسمية، لكنها لم تكن كافية لتغطية احتياجاتهم أثناء نزوحهم.
وقالت لمياء أبو دلة (74 عاماً) خالة سامر «ولا شي ولا حدا دق بابنا ولا حدا سأل… كل واحد دبر حاله بجهده الخاص يعني. الدولة غايبة عنا».
وأضافت «نحن من 1977 اتهجرنا، وبعدنا بنتشرشح من هون لهون. شو بنعمل؟ شيء انفرض علينا، مش بايدنا».