كل مدة، يُصدر البنك الدولي، إلى جانب مؤسسات أخرى، دراسة عن الفقر في لبنان (وفي دول أخرى)، وفيها تحدّد خطوط الفقر على أساس كلفة الاستهلاك. كل من يملك قدرة استهلاكية أدنى من هذا الخط، يصنّف فقيراً. عملياً، يجري تصنيف السكان وفقاً لقواعد رياضية، بينما الواقع هو أنه يصعب التمييز بين فقير مصنّف لأن دخله يقل عن 2.9 دولار يومياً، وبين شخص آخر يمتلك دخلاً لا يتخطّى الـ 3 دولارات يومياً لكنه لا يصنف فقيراً. الفقر، بحسب تقارير المنظمات هو خطّ وهمي للفصل بين طبقات اجتماعية غالبية المصنّفين فيها يعيشون على هوامشها العليا والدنيا. هؤلاء هم الغالبية في المجتمع التي يدفع البنك الدولي وأمثاله من المنظمات الدولية إلى التعامل معهم «غبّ الطلب». غياب سياسات التنمية هو المحفّز لتصنيفات كهذه تستهدف تقليص الإنفاق في المجتمع وتعويده على التسوّل.في حزيران الماضي، حدّد البنك الدولي خطّ الفقر في لبنان بناءً على استهلاك الفرد السنوي. هذا الخطّ يرسم حدّاً للفصل بين فقير وغير فقير. فمن يستهلك سلعاً أساسية قيمتها أقل من 53.4 مليون ليرة سنوياً يُعدّ فقيراً، وقد اعتُمد سعر صرف لهذه الكلفة، على أساس سعر الدولار في كانون الثاني 2023، أي حين بلغ 50 ألف ليرة كمتوسط، ما يعني أنّ كل من ينفق على استهلاكه في السنة أقلّ من 1068 دولاراً، أو 2.9 دولار يومياً، يصنّف فقيراً. وفي حال كان دخل أسرة مكوّنة من 4 أشخاص، أقل من 350 دولاراً شهرياً، تصنّف الأسرة فقيرة. ولا يدخل في هذا التصنيف كلفة المسكن والخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والهاتف والتعليم.
وفي ملخّص عن الدراسة، يتبيّن أن الفقر، وفقاً للخطوط التي رسمها البنك الدولي، يتعاظم في لبنان بعد الانهيار المصرفي والنقدي. خلصت الدراسة إلى أنّ العائلة المقيمة في لبنان باتت تستهلك ثلث كمية اللحوم (حمراء وبيضاء) التي كانت تستهلكها منذ 10 سنوات. وفي المقابل زاد استهلاك الأسرة للحبوب بنسبة 20% لأن ثمنها أرخص من اللحوم. وقالت الدراسة إن الإحصاءات الرسمية اللبنانية «غير محدّثة، إذ توقفت عن دراسة السوق في عام 2012، ومنذ ذلك الحين تضاعفت الأسعار 15 مرّة قبل وقوع الأزمة الاقتصادية». اللافت أن ما يعيبه البنك الدولي على الإحصاءات الرسمية وقع في مطبّه، إذ إنه نشر خطوط الفقر بالتوازي مع قول إن «أرقام عام 2022 لم تعد صالحة في عام 2024». فسعر الصرف ودولرة الأسعار والانهيار المستمر لليرة، كلّها عوامل جعلت من قيمة الدولار غير مستقرّة، وهي عملة ذات قيمة شبه ثابتة في لبنان.
يثير هذا الوضع اسئلة جوهرية حول جدوى خطوط الفقر وتوزيع الأسر تحته وفوقه. يقول الباحث الاجتماعي أديب نعمة: «في التقييم العام، أضعف نقطة في الدراسة هي خط الفقر». ويرى «أنّ تحديد الفقر بأشكاله القصوى فقط، لا يُقال عنه فقراً، بل قرار مسبق بتقليص عدد الفقراء لتوزيع كميّة محدّدة من الأموال، وهذا ليس كلاماً واقعياً بل عمليات حسابية. عندما نقول خط الفقر، هذا يعني تقسيم الفقراء إلى أجزاء حتى لا تقدّم مساعدات تشملهم جميعاً»، سائلاً عن «معنى حصر الفقر المدقع بفئة معيّنة من السكان رغم فقدان الليرة 95% من قيمتها الشرائية، ومعها قدرة العائلات على الاستهلاك».
«حتى الدولار تغيّر»، يقول الباحث كمال حمدان، وهو من المشاركين في كتابة دراسة البنك الدولي. بالنسبة إليه «قيمة دولار عام 2022 كانت عالية. والآن بعد الدولرة وإعادة جدولة أسعار الرسوم بحسب سعر صرف السوق، صارت قيمة الدولار السوقية أقلّ». ما تأثير هذه المتغيّرات إذاً على الفقر؟ يجيب: «انعكاس المتغيّرات على خطّ الفقر وتغيّره»، شارحاً بأن المتغيّرات من زاوية «الأسعار التي تريد أن تربح السباق الذي خسرته مع الدولار. فابتداءً من تشرين الثاني 2023 بدأت الأسعار تزيد بسرعة أكبر من تغيّرات الدولار، وما يحدث هو معاكس تماماً لما حصل في عامَي الدراسة أي 2022 و2023». فعلى سبيل المثال «بدل موقف السيارة في المنطقة العادية كان دولاراً واحداً قبل الأزمة، أي 1500 ليرة، أما اليوم فيُراوح بدل الموقف بين 1.5 دولار و2.5 دولار».
وبحسب نعمة، إن تقسيم السكان وفقاً لمعادلة رياضية مرتبطة بالمدخول والاستهلاك، أي رسم خطّ للفقر، يخدم أجندة المساعدات التي تحاول تحديد شريحة معيّنة لمساعدتها. هذه النظرية تنظر إلى الفقراء وفقاً لحجم المساعدات المنوي توزيعها، فإن زادت يرتفع خطّ الفقر، والعكس صحيح. كذلك يشير إلى «تصريحات لمسؤولين دوليين تتكلم عن خفض حجم المساعدات، ما يعني ضرورة تقليص الفئة المستهدفة، وبالتالي خفض خطّ الفقر أكثر». في المقابل «75% من الأسر اللبنانية تحتاج إلى مساعدات شهرية لسدّ عجز المداخيل أمام المصاريف. ما يعني حاجتهم إلى استعادة قدرتهم الشرائية بشكل أساسي». في هذا السياق، لم يتفاجأ نعمة بأن تبلغ نسبة الفقر 33%، كما وردت في دراسة البنك الدولي، إذ إن دراسات سابقة رسمية تعود إلى 30 سنة تُفيد بأن «ثلث السكان في لبنان فقراء، وعندما يتحسن الوضع الاقتصادي يتضاءل الفقر ليشمل ربع السكان».
هكذا، يعتقد نعمة أن هناك ضرورةً لمراجعة العمل بكل النظرية القائمة على رسم خطّ للفقر، واحتساب الطعام من ضمن محدّدات الفقر. بالنسبة إليه، «هذه تصفية»، و«شيلونا من الأكل، الفقر في لبنان أوسع، ويشمل النقل والمياه والتعليم»، محذراً من الاعتماد على معادلات رياضية تحدّد المستفيدين من المساعدات من ضمن الفقراء، مشبهاً إياها بـ«امتحانات الدخول التي تستبعد المحتاجين إلى المساعدات من بين المؤهّلين»، مرجعاً الأمر مجدداً إلى حجم الكتلة المالية المقرر توزيعها على الفقراء ما يوجب تحديد الشريحة المستهدفة، وكلّما قلّت كلّما توجهنا صوب مساعدة الأكثر فقراً تاركين البقية عرضةً للغرق أكثر. وحول معالجة الفقر رأى نعمة أنّ الحلّ يكمن في تغيير بنية التفكير والديناميات التي تولّد الفقر، إذ لا يجوز العمل بشكل فردي، وحصر الجهد على تضييق شريحة الفقراء والمستحقّين للمساعدات.
32%
من العائلات الفقيرة خلال عامَي 2022 و2023 لا تستهلك الأطعمة بشكل مقبول» بحسب دراسة البنك الدولي، و«83% من الأسر تعتمد في شراء غذائها على سلع رخيصة، أقل تفضيلاً، في يوم واحد على الأقل أسبوعياً». كما أشارت الدراسة إلى اضطرار الأسر الأكثر فقراً إلى خفض حجم الوجبات اليومية، أو تقليل عددها، أو اقتراض الطعام، أو أن يقوم فرد بالغ في الأسرة بتقييد تناوله الطعام من أجل تغذية أطفاله
2%
هي نسبة الفقر في بيروت وفقاً لمعايير البنك الدولي في حين وصلت في عكار إلى 62%