«… في هذه الفترة الصعبة التي نمرّ بها لا يمكن إلا أن نتحلّى بالصمت والصبر والصلاة». عبارةٌ أطلقها رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي أمس وتردّد «دويّها» في الأروقة التي كانت تضجّ باتصالاتٍ وزياراتٍ لمسؤولين دوليين لبيروت، في لحظةِ وقوف «بلاد الأرز» أمام مفترقِ ردٍّ آتٍ من «حزب الله» وإيران على استهداف الضاحية الجنوبية وقلْب طهران، والمنطقة أمام منعطفٍ سيحدّد اتجاهَ «كرة نار» غزة ومنسوبِ «الثأر» لاغتيال كلٍّ من فؤاد شكر وإسماعيل هنية في ضوء نتائج مفاوضاتِ الهدنة في القطاع التي استؤنفت في الدوحة.
وبدا كلام ميقاتي، عقب استقباله وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه الذي زار بيروت في مستهلّ جولةٍ في المنطقة في إطار «الجهود الدبلوماسية من أجل خفْض التصعيد في المنطقة»، وكأنه مدجَّجٌ بأعلى درجاتِ القلقِ من آتٍ أعظم ضاقتْ إمكاناتُ تجنُّبه على مستوى لبنان والإقليم في ظلّ انطباعٍ بأن مفاوضاتِ وقف النار في غزة بالغة التعقيد رغم الكلام الأميركي عن «بداية مشجّعة لها»، والأهمّ تعمُّد «حزب الله» وطهران «فصْل المساريْن» بين مآلاتها وبين الردّ الحتمي «الحاصل حتماً».
وفي حين عَكَس رئيس الحكومة اللبنانية على طريقته «درجةَ المخاطر الأعلى» التي بَلَغَها الوضعُ في الوطن الصغير، وسط استشعارِ أوساطٍ سياسية بأن ما سيكون خَرَجَ عن القدرة على التحكّم به أو منْعه، فإنّ تَهافُت كبار المسؤولين الدوليين إلى بيروت وعلى طريقة «سِباق البدَل» اعتُبر بدوره مؤشراً إلى حراجة المرحلة التي يقف لبنان على تخومها، وإلى محاولاتٍ أخيرة وربما على طريقة «اللهم أشهد» لحضّ سلطاته الرسمية كما المعنيين بالردّ الانتقاميّ على تَدارُك الأسوأ ولو في الدقائق الخمس الأخيرة.
فبعد سيجورنيه الذي حطّ في لبنان غداة زيارة الموفد الأميركي آموس هوكشتاين، يُنتظر وصول وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي اليوم، وفق ما أفادتْ قناة «الحدَث»، وذلك في سياق ضغوطٍ دبلوماسية قصوى، دولية وإقليمية، في اتجاهين: الأول إنجاحُ مفاوضاتٍ حول غزة انطلقت وسط شكوكٍ في نتائجها واستؤنفت بوساطة مصرية وقطرية وأميركية، والثاني جعْل الضربة المرتقبة من «حزب الله» وإيران منضبطة في شكلٍ لا يَستدرج رداً مضاداً أقسى من بنيامين نتنياهو، سواء حصل الاختراق في الدوحة أم لا.
قطبة مخفية
وفي حين كانت محادثاتُ سيجورنيه تحمل «تأكيد دعم فرنسا للبنان في هذه الأوقات التي نشعر فيها بالقلق والعمل على تخفيف حدّة التصعيد»، مع تمني «استمرار عدم التصعيد من الجانب اللبناني» وتقدير «ضبط النفس في هذه الفترة الصعبة»، والتشديد على «أن ما يهمنا في هذه المرحلة هو وقف النار في غزة»، فإن بين سطور محادثات وزير الخارجية الفرنسي وقبْله هوكشتاين قطبة مخفية تتصل بالتمديد المرتقب نهاية الشهر الجاري لقوة «اليونيفيل» العاملة في الجنوب، وفق المشروع الفرنسي، وذلك في ضوء محاولةٍ إسرائيلية تبنّتْها واشنطن – وفق ما رشح عن محادثات الموفد الأميركي في بيروت – ليكون التجديد الدوريّ لستة أشهر فقط وليس لسنة كما هي العادة منذ إنشائها في 1978 قبل أن تتم زيادة عديدها وجعْلها «حارسة» لتطبيق القرار 1701 مع الجيش اللبناني عقب حرب يوليو 2006.
وإذ أكد سيجورنيه «اننا ندعم عمل اليونيفيل وعمِلْنا ونعمل في إطار محادثاتٍ لضمان تجديد ولايتها لمدة 12 شهراً، وهذا هو العمل الذي نعمل من أجله في الأمم المتحدة حالياً»، شدّد رئيس البرلمان نبيه بري على أن لبنان «حريص على التمديد لليونيفيل وفق الـ 1701»، قبل أن يكشف وزير الخارجية عبدالله بو حبيب «أن هناك نوعاً من إجماعٍ على التجديد لليونيفيل بالصيغة نفسها للعام الماضي، وكان الأميركيون طلبوا التجديد لستة أشهر ولكن تم حّل هذا الموضوع مع هوكشتاين ليكون الأمر لـ 12 شهراً». علماً أن ثمة تسليماً من الجميع بأن القرار 1701 سيكون الناظم لـ «اليوم التالي» على جبهة لبنان بالتوازي مع أي حلٍّ لحرب غزة.
رسائل «حزب الله»
وفي الوقت الذي أكد بري أمام سيجورنيه «أن لبنان ملتزم بقواعد الاشتباك وبحقّه في الدفاع عن النفس بمواجهة العدوانية الإسرائيلية»، وإعلان بوحبيب «كان انطباعي أساساً أنّ رد إيران و حزب الله لن يكون قبل مفاوضات الدوحة، لكن ما نسمعه أن الردّ لن يطول مدنيين» مع تشديده على «أننا لم نتلق رسائل من إسرائيل عبر المبعوث الاميركي أو وزير خارجية فرنسا»، برز تَعَمُّد «حزب الله» توجيه رسالتين بارزتيْن أمس تقاطعتا عند أن الردّ على اغتيال شكر وهنية من الحزب وإيران آتٍ:
– الأولى بلسان نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم، الذي هاجم في حديث عبر قناة «المنار» هوكشتاين وزيارته واصفاً إياها بأنها «استعراضية وهو لا يحمل شيئاً ولا توجد مقترحات أميركية محددة»، معلناً أن «الأميركيين يريدون القول إنهم يتحركون لكن في الفراغ من دون مشروع حتى الآن».
وفي كلمة له خلال احتفال تأبيني، بلْور قاسم بوضوح مسألة الردّ الحتمي، متحدّثاً عن 3 مسارات «الأول استمرارُ العدوان على غزة، وهذا يستدعي أن تستمر جبهات المساندة، والثاني وقف النار، وقلنا مراراً إنه إذا توقف إطلاق النار في القطاع تتوقف جبهات المساندة من دون الحاجة إلى نقاش، أما المسار الثالث فهو الردّ على اغتيال القائد شكر والقائد هنية، وهذا الردّ له مساره وخطته وهو منفصل تماماً عن مساريْ استمرار جبهات المساندة ووقف النار، أي أن الردّ سيحصل».
– والثانية حملها بيان «حزب الله» بمناسبة الذكرى السنوية الثامنة عشرة «لانتصار يوليو 2006» حيث أعلن أنه «اليوم وعلى عتبة التحولات التاريخية الكبرى في المنطقة والتي كانت شرارتها عمليه طوفان الأقصى المظفرة، فإنّ المقاومة الإسلامية في لبنان تؤكد أنها لاتزال ملتزمة بثوابتها بشكل قاطع ونهائي ومعها كافة جبهات الإسناد في محور المقاومة بالوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني المظلوم ومنع العدو من تحقيق أهدافه».
وشدد على أنه «رغم التهديدات الإسرائيلية المتواصلة وحاملات الطائرات الأميركية والاغتيالات والحملات الإعلامية الداخلية والخارجية ستواصل المقاومة بكل شجاعة وحكمة وبكل ما أوتيت من قوة ومقدّرات وما تملك من مفاجآت الدفاع عن لبنان وعن الشعب اللبناني وحريته وإرادته بالعيش الكريم الآمن، وانّ ما تعِد به تفيه حقه أحسن الوفاء والله على ما تقول شهيد».
وتمّ التعاطي مع مواقف «حزب الله»، معطوفةً على كلام المرشد الإيراني الأعلى السيد علي خامنئي عن رفض التراجع أمام «الحرب النفسية» في المجال العسكري لـ «الأعداء»، كما تأكيد الحوثيين أمس «ان الرد (على استهداف ميناء الحديدة) آتٍ والقرار حاسم ومهما كانت مساعي احتواء الرد فهي فاشلة والقرار حتمي من كل جبهات الإسناد»، على أنها بمثابة تأكيد أن الضربةَ، المتعددة الجبهة والمركّبة أو المنفردة، محسومةٌ، وأن نجاح مفاوضات الدوحة من شأنه فقط تعزيز خيارِ الردّ الموْضعي في ضوء الانطباع بأن وجود الأساطيل الأميركية يساعد على جعْله أكثر انضباطاً باعتبار أن مجرّد حصوله في ظل الحشد العسكري البحري سيكون إنجازاً.
وبحسب أوساط متابعة فإن هذا الردّ، يرْمي لردع نتنياهو عن المزيد من الضربات المتفلّتة من أي ضوابط بحال طالت أكثر حرب غزة وأخواتها، وأيضاً عن تفكيك «وحدة الحل» بين الساحات إذا وصلت المفاوضات إلى نتيجة، وربما حتى بهدف «ربط نزاعٍ» متقدّم حيال مرتكزات الحلّ لجبهة لبنان خصوصاً والذي يستفيد نتنياهو في التمهيدِ له من الأساطيل الأميركية التي «تجلس» على الطاولة.
وفيما كانت الاستعداداتُ على أشدّها في واشنطن وتل أبيب لكل سيناريوهات الردّ الذي لم يَستبعد البيت الأبيض أن يحصل خلال أيام وعودة الكلام عن احتمال هجوم استباقي من إسرائيل، ووسط إدارة وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن محركات «دبلوماسية الهاتف» مع عواصم عربية وغربية مواكبةً لمفاوضات الدوحة، حمل الميدان في جنوب لبنان المزيد من إشارات التصعيد المقلقة في سياق «حرب المشاغلة» التي تتمدّد رقعتها وترتفع وتيرتها في الأيام الأخيرة.
استهداف مرجعيون
وكان الأبرز في هذا الإطار استهداف إسرائيل للمرة الأولى منذ بدء المواجهات مدينة مرجعيون الجنوبية ذات الغالبية المسيحية والتي تحوّلت نقطة نزوح لأبناء قرى الحافة الأمامية.
وجاء هذا الاستهداف ليل الأربعاء عبر مسيّرة أغارت على سيارة ما أدى إلى سقوط شخص (نعاه حزب الله)، وإصابة 9 أشخاص بينهم طفل يبلغ من العمر ثلاث سنوات ووالده (إصابتهما حرجة).
وغداة هذا الاستهداف، أدخل «حزب الله» إلى دائرة النار للمرة الأولى مستعمرة شامير التي قصفها بصليات من صواريخ الكاتيوشا ما أطلق موجة نزوح منها، كما ردّ على غارات وعمليات قصف طالت بلدات جنوبية عدة وأدت لإصابة مدنيين بـ «هجوم جوي بسرب من المسيرات الانقضاضية على موقع خربة ماعر»، بعدما هاجم موقع معيان باروخ بقذائف المدفعية.
وفي الوقت الذي أعلنت إذاعة الجيش الإسرائيلي تحطم مسيرة انقضاضية في منطقة مفتوحة قرب عرب العرامشة على الحدود مع لبنان دون إصابات، مضى الجيش الإسرائيلي في استهدافاته لبلدات جنوبية بينها الخيام وقبريخا حيث أصيب طفل بجروح وسُجلت حالات اختناق نتيجة القصف الفوسفوري.