تختلف نظرة نازحي الجنوب لفترة خريف وشتاء 2024 عن فترة العام 2023 التي رافقت اندلاع الحرب، إذ بعد نحو عام على بدايتها، ترتفع مؤشّرات إطالة زمن الحرب وما يحمله ذلك من انعكاسات على أحوال النازحين، بدءاً من حاجتهم لمتطلّبات مواجهة موسم الأمطار على مستوى تأمين الملابس أو السجّاد ووسائل التدفئة وغير ذلك.
وتتغيّر سبل مواجهة الشتاء تبعاً لاختلاف أحوال النازحين المادية وأماكن نزوحهم وقدرتهم على استغلال بعض الظروف، كحالات الوفاة، للوصول إلى قراهم الحدودية، لكن مع ذلك، لا يحظى الجميع بفرصة إيجاد منزله وأغراضه. ووسط عدم وضوح ما ستؤول إليه أمور الحرب، ينتظر النازحون احتمال تسيير قوافل بحماية الجيش اللبناني وقوات الطوارىء الدولية، تضمن الوصول إلى المنازل وإحضار ما يَلزَم، ثم الخروج من المنطقة.
“بانتظار الموت”
منذ اشتداد القصف الإسرائيلي على الجنوب وتحوُّل القرى الأمامية إلى مناطق خالية من السكّان، لم يعد أبناء تلك القرى يعرفون شيئاً عن بيوتهم. ويستغلّ هؤلاء وفاة أحدهم لتصبح سيارة الإسعاف وبضع سيارات قليلة خلفها، قافلة آمنة بغطاء من الجيش واليونيفل، إلى حين انتهاء الدفن سريعاً والعودة إلى مناطق أكثر أماناً. وخلال الدفن، يخطف المشاركون في الجنازة بعض الوقت لتفقُّد منازلهم والتأكّد أنها لا تزال “صامدة”، لكن هذه العملية لا تشمل المنازل الواقعة على أطراف القرية، إذ أن العدوّ يستهدف أيّ حركة على الأطراف. وتحت هذا الغطاء يُحضِر النازحون ما أمكنهم من أغراض.
و”بانتظار الموت”، يأمل أبو علي مواسي أن يتمكّن من الوصول إلى منزله في بلدة عيترون الحدودية لإخراج ما يمكن أن يجده من أغراضٍ صالحة لمواجهة الشتاء. ومع أنه يستقرّ حالياً قرب مدينة صور، إلاّ أن شتاء الساحل لا يمكن تخطّيه بلا بعض السجّاد والأغطية والبطّانيات. ويقول أبو علي لـ”المدن” أن احتمالات الوصول إلى القرى الحدودية والتجوّل فيها بسهولة “بات شبه مستحيل… ما عدا المناطق القريبة من مدينة بنت جبيل”. ويأسف أبو علي لعدم إنقاذه الأغراض حين خروجه في بداية الحرب، لكن “لم يكن أحد يحسب أن الأمور ستطول إلى هذ الحدّ، بل كنّا نظنّ أنها مسألة أيام قبل العودة إلى القرية”.
احتمالات وصول أبو علي إلى منزله وإنقاذ ما يمكن من أغراض، هو “تَرَفٌ” يفتقده يوسف عبّاس ابن البلدة نفسها. لأن “المنزل يقع على الحدود مباشرة ويستحيل الوصول إليه”، وفق ما يؤكّده عبّاس لـ”المدن”. وصعوبة الوصول إلى محيط المنزل وضعته في دائرة المجهول. فعبّاس اليوم لا يعرف إذا كان منزله لا يزال على حاله أم دُمِّر.
الأغراض بقيت في المنازل
أغراض كثيرة بقيت هناك منذ الخروج في الأيام الأولى للحرب. يقول عبّاس “اضطررت لشراء الكثير من الأغراض، خصوصاً الثياب لطفلي. واليوم، مضطر لشراء المزيد، سيّما وأن الطفل يكبر ويحتاج إلى ثياب شتوية جديدة، والمنزل بحاجة لبعض الأغراض أيضاً”.
ما يثير السخرية المرّة، بالنسبة إليه، أن “بعض الأشخاص أخرَجوا معهم ثياباً شتوية وبطّانيات وسجّاد، فالحرب اشتعلت مع بداية الخريف والأمطار، لكنهم أعادوها خلال أيام الهدنة التي حصلت في بداية الحرب، إذ كانت الهدنة مؤشراً على أن الحرب لن تطول. لكن حصل العكس، وبات هؤلاء بحاجة لشراء أغراض شتوية جديدة”.
بالتوازي، تأسف زينب من بلدة عيناتا لعدم إخراجها كل أغراض المنزل لحظة الخروج من البلدة بعد نحو 20 يوماً على بداية الحرب “لكن لا أحد كان يظنّ أن الأمور ستتوسَّع إلى هذا الحدّ”. تستقرّ زينب حالياً قرب مدينة صور بعد عودتها من منطقة الغازية التي لجأت إليها مباشرة بعد الخروج من عيناتا. منزلها الذي تعيش فيه اليوم مع زوجها “استأجره حزب الله على أساس انه مفروش، لكنه في الحقيقة ليس كذلك. وإذا كانت فترة الصيف تنقضي بفرشة اسفنج على الأرض، فلا ينفع ذلك مع فصل الشتاء”، وفق ما تقوله لـ”المدن”. لا تعرف زينب ما ستفعله خلال الشتاء المرتَقَب. بل تنتظر بعض المساعدات من الجيران أو من حزب الله أو الجمعيات الأهلية. علماً أن بعض البيوت التي استأجرها الحزب، كانت بالفعل مفروشة بشكل كامل، لكن المسألة كانت متعلّقة بالمسؤولين عن هذا الملف في كل قرية على حدة.
القوافل الآمنة تخفِّف الأكلاف
يحاول بعض النازحين التسليم بالأمر الواقع وتدبير أمورهم بما تيسّر لديهم من امكانيات، معتبرين أن هذه الحرب “فُرِضَت علينا، ومواجهة العدوّ تقتضي الصبر، وإن لم تتوفَّر كافة عوامل الراحة”. لكن في المقلب الآخر، يُصرُّ جزء من النازحين على أن “من مقوّمات الصمود في الحرب، تأمين الحاجيات الضرورية للأهالي، ولا نقول هنا العيش برفاهية”. ويُذكِّر هؤلاء بأن “أوّل ما واجهه النازحون هو ارتفاع إيجارات المنازل بشكل خيالي، ولم تفلح المناشدات في تراجع الإيجارات، إذ يحتاج الأمر إلى معطيات ملموسة على الأرض، كتهدئة الحرب وعودة بعض الأهالي إلى قراهم، مما يخفِّف الطلب على المنازل”. لكن تحقيق هذه الغاية يحتاج تغييرات إقليمية ودولية تؤثِّر على مجرى الحرب، وبالتالي، فإن عودة أهالي المناطق الحدودية غير وارد حالياً، ما يترك الاحتمالات مفتوحة أمام خيارات أخرى. ويقول بعض النازحين أن “خياراً أسهل يمكن اتخاذه لتخفيف وطأة الشتاء على النازحين، وهو تسيير قوافل آمنة لإحضار حاجيات الشتاء من المنازل في القرى الأمامية. وهذه التجربة نجحت بالفعل مع تجّار بلدة ميس الجبل الذين تمكّنوا من إخراج مستودعاتهم عبر قوافل آمنة، ويمكن تطبيق هذا المبدأ مع المواطنين”.
هذه المبادرة إن تحقَّقَت فهي قادرة، برأي عبّاس، على “تخفيض الأكلاف على النازحين، لأنهم سيتمكّنون من تخفيض فاتورة اشتراك المولّدات الخاصة، إذ قد يجلبون معهم أنظمة الطاقة الشمسية، فضلاً عن إحضار البرادات والغسالات. وسيتمكّنون من توفير المال إذا أحضروا ثيابهم الشتوية والسجّاد. وكذلك، قد تنخفض إيجارات المنازل لأنها تؤجَّر اليوم بوصفها مفروشة، وإحضار كافة الأغراض من القرى، يعني استئجار المنازل غير مفروشة، وبالتالي بكلفة أقل”.
ورغم أهمية هذه القوافل، إلاّ أنها تبقى معرّضة لخطر أمني، حتى وإن تمّ التنسيق مع قوات الطوارىء الدولية، إذ لا يمكن الوثوق باحترام إسرائيل لتعهّداتها بعدم استهداف القوافل، سيّما إذا رأت إسرائيل أن بعض عناصر الحزب تتستَّر بتلك القوافل للتنقّل بسهولة داخل القرى، وأسهم هذا الاحتمال مرتفعة جداً، لذلك، من غير الواضح حتى اللحظة إمكانية الركون إلى خيار القوافل الآمنة، رغم أن هذا الخيار مطروح خلف الكواليس.
أفكار كثيرة تجول في أذهان النازحين، وتلتقي كلّها عند نقطة مواجهة قساوة الشتاء التي تتفاقم مع مرارة انتظار انتهاء الحرب. فالمسألة بالنسبة للنازحين ليست فقط تأمين الدفء وتخفيض الأكلاف، بل في الإجابة عن سؤال واحد، وهو “متى العودة؟”. فحينها “كل شيء يَهون، حتى لو نمنا في الشتاء على البلاط”.