هي طلائع «حرب لبنان الثالثة». هذا أقلّ ما أمكن أن يوصف به الاجتياحُ الجوي الإسرائيلي الذي بدأ أمس لـ «بلاد الأرز»، ولفّ كل الجنوب وصولاً إلى البقاع والهرمل مروراً بالساحل الجنوبي وأعالي جبيل وكسروان، بزنارٍ من دم ودمار أطلّتْ من تحت ركامه غزة ثانية مرشّحة ليومياتٍ من تَبادُل الضربات بين «حزب الله» وتل أبيب التي قررتْ اللجوء الى القوة لمحاولة «استعادة الأمن على حدودنا الشمالية وإعادة النازحين إلى منازلهم وإبعاد الحزب عن جنوب الليطاني».
وبين نهارٍ فَرَكَ معه لبنان عينيْه على بدء «الغزوة الجوية» التي تركّزتْ في موجتها الأولى على بلدات عدة في الجنوب (مع بضع غارات على البقاع) لتشمل تباعاً كل «الأرض الطيبة»، وليلٍ لاحتْ قبل أول خيوطه موجةُ استهدافاتٍ من الطيران الحربي انتقل ثِقْلُها إلى مناطق واسعة في البقاع خصوصاً بعلبك – الهرمل، وفشل محاولة اغتيالٍ في الضاحية الجنوبية لبيروت استهدفت المعاون الجهادي في «حزب الله» علي كركي، انفتحتْ الحربُ على مصرعيها ليبقى الفاصلُ الوحيد حتى الساعة عن وَصْفها بـ«الشاملة» أمران:
– الأول حَصْرُها من إسرائيل بما تدعي انه البنية التحتية لـ «حزب الله» وترسانته العسكرية مع تحييد الدولة اللبنانية ومرافقها وعدم تفعيل «عقيدة الضاحية الجنوبية» التدميرية الشاملة في معقل الحزب الذي حافَظَ بدوره على عملياتٍ في العمق الإسرائيلي وصولاً إلى حيفا مع «نصف تفعيلٍ» لورقة تل أبيب التي هاجم مستوطنات على بُعد 100 كيلومتر أي ما يعادل المسافة إليها.
– والثاني عدم دخول أطراف إقليمية على خطّها حتى الآن، وتحديداً إيران التي أعطت أمس إشاراتٍ دبلوماسيةً تشي بأنها لن تتدخّل مباشرة في معركةٍ تعتبرها فخاً ينصبه بنيامين نتنياهو «وهو يريد إقحام إيران والولايات المتحدة في الحرب».
إبادة جماعية وحشية
وعلى امتداد ساعات الرعب والقتل التي بدا أن إسرائيل تعمّدتْ أن تعتمد فيها استراتيجية ترويع المدنيين متخفّية بإنذارات إخلاءٍ على طريقة «نفض اليد من الدماء» وتأكيدات أن الأبنية السكنية التي تُستهدف تضم أسلحة وصواريخ ومسيّرات، توالت فصولُ إبادة جَماعيةٍ وحشية ارتسمتْ في الجنوب والبقاع، حيث سقط في نحو 10 ساعات نحو 300 ضحية و1030 جريحاً، أي ربع حصيلة الأيام الـ 33 من حرب يوليو 2006، وسط خشيةٍ من أن يتمدّد «حمام الدم» في ظل تقديراتٍ بأنّ حربَ 2024 التي انطلقتْ في نسختها الواسعة أمس، ستمتدّ لأيام وربما أسابيع كما لوّحت إسرائيل، التي أعلنت حال الطوارئ الشاملة لمدة أسبوع، ووفق ما تؤشر إليه استعدادات «حزب الله».
ومن قلب الدخان الذي تَصاعَدَ في عموم الجنوب وقطاعاته، النبطية، بنت جبيل، مرجعيون، جزين، صور وبلداتها وصولاً إلى صيدا، وامتدّ إلى عمق 125 كيلومتراً حتى الهرمل الذي استُهدف ومعه بلدات في بعلبك (مثل نحلة وشعت والنبي شيت وبوداي والنبي عثمان واليمونة وكفرزبد) والبقاع الغربي (سحمر ويحمر والأعالي المشرفة على سد القرعون)، بالتوازي مع سقوط صاروخ في أحد جرود قضاء جبيل (بين اهمج وعلمات) قبل غارة مساء على جرود قرطبا (جبيل) وكسروان (ميروبا)، بدا من الصعب استشراف نهاية النفق الأكثر سواداً الذي دخله لبنان عبر «جبهة الإسناد» التي فتحها «حزب الله» منذ 8 أكتوبر وخرجتْ عن السيطرة تباعاً وسط لاءين كبرييْن: من الحزب لفصل هذه الجبهة عن غزة، ومن تل أبيب لاستمرار النار عليها وبقاء المستوطنين خارج منازلهم و«حزب الله» على الحدود.
«لا عودة إلى الوراء»
لكن الإشارات الأولية التي برزت أمس، عكستْ أن «لا عودة إلى الوراء» في مواجهةٍ مفتوحة حتى تحقيق الأهداف من إسرائيل وتحوّل معها لبنان الجبهة الرئيسية التي أعطتْها تل أبيب أمس شكل الحرب «رسمياً» عبر إطلالاتٍ للناطق باسم الجيش دانيال هاغاري الذي وعد الإسرائيليين بتحديث «تقييم الوضع» ووضعهم في أجوائه على مدار الساعة، في حين كان الناطق باسم الحكومة ديفيد مينسر يخرج في «إحاطة» ضرب موعداً مع مثيلتها اليوم «وفي الوقت نفسه».
ولم تُخْفِ تل أبيب أهداف الحرب التي حدّدها نتنياهو بتنفيذ وعد «أننا سنغير ميزان القوى في الشمال، وهذا بالضبط ما نفعله»، مؤكداً «نحن لا ننتظر التهديد بل نسبقه»، مطالباً «باستمرار الضغط العسكري»، وداعياً «لا تُنْزِلوا القدمَ عن دواسة البنزين»، في وقت أعلن وزير الدفاع يواف غالانت «نعمل على توسيع نطاق الضربات في جميع أنحاء لبنان»، وقال مينسر إن «حزب الله يعرض اللبنانيين للخطر وصبرنا نفد ولا توجد دولة يمكنها تقبل إطلاق الصواريخ على مدنها والتسوية السياسية لم تثمر على مدى 11 شهراً، وعلى حزب الله العودة إلى ما وراء نهر الليطاني وهذا تفعله إسرائيل الآن، وسيتم تأمين الحدود الشمالية لإسرائيل عسكرياً أو دبلوماسياً».
أما هاغاري، فأوضح «لدينا خطة متكاملة واليوم ننفذ الجانب الجوي»، لافتاً إلى «ان الانفجارات الثانوية التي نشهدها بعد الغارات هي لأدوات قتالية كانت مخزنة في المنازل والأبنية وسنواصل استباق ضربات حزب الله»، زاعماً «اننا هاجمنا صاروخاً بالستياً لديه رأس حربي من 300 كيلوغرام»، «ونحذّر سكان البقاع من أن عليهم الابتعاد عن البيوت التي تضم أسلحة، وسنضربها قبل ان تهدد سكان إسرائيل»، ومتهماً الحزب بأنه «يخزن أسلحة استراتيجية في البقاع».
ومن سياق الضربات التي أعلن الجيش الإسرائيلي أنها شملت خلال نحو 10 ساعات، أكثر من 800 هدف في الجنوب والبقاع، أمكن استخلاص أن تل أبيب تسعى إلى تجفيفِ مصادر القوة الصاروخية للحزب وتقويض قدراته العملياتية واستهداف مدارج المسيّرات وضرب معامل التصنيع في البقاع (بعد سورية) والمخازن وطرق النقل والإمداد عبر سورية، وذلك إكمالاً لمسار محاولة ضرب التسلسل القيادي لوحدة الرضوان، بعملية الضاحية الجنوبية يوم الجمعة، وقبْلها عمليتا «البيجر» و«ايكوم» اللتين طاولتا طبقتين أخرييْن من منظومات عمل الحزب ومؤسساته، وصولاً إلى «مدّ يدها» أمس على ما لا يقلّ عن 4 من رجال الدين الذين يساهمون في الإعداد والإرشاد الديني في البقاع والجنوب.
وفي وقت نُقل عن مسؤولين رفيعي المستوى في الجيش الإسرائيلي «اننا جاهزون للشروع في عملية برية في لبنان»، حمَل النسق الهستيري من الغارات أمس، استهدافاً عن «سابق تصور وتصميم» لأبنية سكنية سقطت بمن فيها وعليهم، وصولاً لاستهداف محيط المستشفى اللبناني – الايطالي في صور، في محاولةٍ لترويع المدنيين ودفْعهم الى نزوح جماعي سرعان ما بدأ لتشهد شوارع عاصمة الجنوب ومدخله صيدا زحمة خانقة مع اتجاه أهالي القرى إليها، فيما شهدت مداخل بيروت تزاحُماً على العبور إليها تسببت باختناقات مرورية لساعات، في ضوء الحصيلة الدموية التي كانت ترتفع تباعاً كما رسائل التحذير الإسرائيلية.
وفي حين وصفت الحكومة اللبنانية «العدوان الإسرائيلي المتمادي على لبنان» بأنه «حرب إبادة بكل ما للكلمة من معنى ومخطط تدميري يهدف الى تدمير القرى والبلدات اللبنانية والقضاء على كل المساحات الخضراء»، داعياً الامم المتحدة ومجلس الامن والدول الفاعلة«الى الوقوف مع الحق، وردع العدوان، ونجدد التزامنا بالقرار 1701 بشكل كامل ونعمل كحكومة على وقف الحرب الإسرائيلية المستجدة ونتجنب قدر المستطاع الوقوع في المجهول»، باشرت الإدارات المعنية إعداد المدارس الرسمية ومراكز إيواء معدّة سلفاً لاستقبال النازحين الذين راحوا يبحثون عن بيوت لاستئجارها، وسط حركة نزوح غير معلنة من الضاحية التي تحسب سكانها لـ«انتقام» إسرائيلي منذ أن ضرب الحزب منطقة حيفا فجر الأحد رداً على مجزرتي «البيجر» و«ايكوم».
وفي حين نقل موقع «أكسيوس»عن مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية ان «حزب الله سيواجه صعوبة في الردّ لأن العديد من صواريخ الكروز الخاصة به دُمّرت في الغارات»، حرص الحزب على الردّ سريعاً ومن قلب زنار النار على شمال إسرائيل بسلسة عمليات على طريقة «ما زلنا هنا» أولها على«المقر الاحتياطي للفيلق الشمالي وقاعدة تمركز احتياط فرقة الجليل ومخازنها اللوجستية في قاعدة عميعاد ومُجمعات الصناعات العسكرية لشركة رافاييل في منطقة زوفولون شمال مدينة حيفا بعشرات الصواريخ و«المخازن الرئيسية التابعة للمنطقة الشمالية في قاعدة نيمرا بعشرات الصواريخ»، ثم مقر قيادة الفيلق الشمالي في قاعدة عين زيتيم وقاعدة ومطار رامات ديفيد (منطقة حيفا).
«البلاغ الرقم 1»
وكان «البلاغ الرقم 1» من الجيش الإسرائيلي جاء على شكل رسالة الى سكان القرى اللبنانية بعيد الحملة الجوية الأولية التي بدأت قرابة السادسة والنصف صباحاً، وجاء فيها «الغارات ستبدأ على المدى الزمني الوشيك أخلوا البيوت التي خبأ فيها حزب الله الأسلحة فوراً»، فيما نقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» عن مصدر أمني أن «الجيش سينفذ هجوماً واسع النطاق في جميع أنحاء لبنان في ساعات الظهيرة المبكرة»، لافتاً إلى أن «حزب الله» قد يردّ بتوسيع نطاق إطلاق الصواريخ ضد إسرائيل، قبل أن تعلن إذاعة الجيش أن«هجمات الجيش ستركز على المناطق المأهولة بالسكان حيث يخزن حزب الله أسلحته».
وكما في الجنوب الذي حوّلته إسرائيل ملعب نار اشتعلت على الأعالي كما على مرمى العين من على شاطئ صور وسط مشاهد مرعبة لانفجاراتٍ هائلة وحرائق«»على مدّ النظر»، كذلك في البقاع الذي استبق الجيش الإسرائيلي العدوان عليه برسالة تحذير للأهالي أرفقها بخريطة للمناطق الأكثر عرضة للاستهداف.