حتى الساعات الأولى من ليل أمس، بلغ عدد النازحين المسجّلين رسمياً في المدارس 30 ألف نازحٍ في حصيلة غير نهائية، وفق مصادر معنية، أكّدت لـ«الأخبار» أنّ أكثر من 95 ألف نازحٍ خرجوا من قرى الجنوب والبقاع، بعد اشتداد الغارات الإسرائيلية، وتوسّع رقعة العدوان في اليومين الماضيين.في التفاصيل، توزّع النازحون على 275 مدرسة، على الشكل التالي: 28 مدرسة في بيروت، 122 مدرسة في جبل لبنان، 29 مدرسة في الجنوب (قضاء صيدا)، و34 مدرسة في البقاع، 18 مدرسة في الشمال، 15 في بعلبك – الهرمل، و26 في عكار. وفيما وصلت مدارس قضاء عاليه (من الشويفات حتى عين دارة) إلى قدرتها الاستيعابية، شهدت مدارس الشوف توافداً هائلاً، ومع ساعات صباح اليوم من المُرجّح أن تكون قد امتلأت، ومثلها مدارس إقليم الخروب وصيدا. الضغط الكبير على المدارس المنتشرة في محافظة جبل لبنان، مردّه إلى اعتبار بلدات المحافظة مناطق آمنة وقريبة من بيروت في الآن عينه، فيما شكّل الوصول إلى مناطق الشمال تحدياً بالنسبة إلى العائلات التي أمضت قرابة 15 ساعة على أوتوستراد الجنوب لتتمكن من الوصول إلى بيروت، ما دفعها إلى اللجوء إلى أقرب مركز إيواء. ورغم ذلك، استقبلت مدينة طرابلس والبلدات العكارية آلاف النازحين في تقديرات أولية.
إنسانياً، الصورة مأساوية، ففي جولة لـ«الأخبار» على مدارس قضاء عاليه، تبيّن أن غالبيتها تعاني من نقصٍ حاد في الفرش والبطانيات والوسادات. ومعظم هؤلاء النازحين أمضوا ليلتهم الأولى، وسيمضون ليلتهم الثانية – على أقل تقدير – على البِلاط، لا تحمل أجسادهم ألواح إسفنج، ولا بطانيات تقيهم البرد الذي بدأت تشهده بلدات الجبل ليلاً. بعض الأرقام يمكنها أن تعكس واقع الحال، فمثلاً في مدرسة بيصور الرسمية هناك حاجة إلى 140 فرشة ومثلها من الأغطية والوسادات، وفي مدرسة عبيه الرسمية التي تستضيف 140 نازحاً، تتوفر 40 فرشة فقط.
وعلى هذا الحال يُمكن القياس، على مستوى المستلزمات الأولية، وكذلك على مستوى الغذاء، حيث لم تصل الوجبات الساخنة إلا إلى أعدادٍ قليلة جداً من المدارس، على أن يبدأ برنامج الغذاء العالمي اليوم توزيع وجبتي طعام ساخنة يومياً لكل نازحٍ، وصندوق معلباتٍ يكفي لخمسة أيامٍ. هذا الفراغ، بادر المجتمع المحلي الأهلي إلى سدّه، فحاول أبناؤه فرادى وجمعيات طهو ما تيسّر من طعام وتوزيعه على النازحين. وفي أماكن أخرى، انتظر النازحون ساعات الصباح، وقصدوا الدكاكين المحيطة بالمدارس لشراء الخبز والجبن المطبوخ.
وإن كان الأهالي قد استطاعوا توفير جزء من الحاجات الغذائية، إلا أنّهم عجزوا عن توفير الفرش، حيث بقيت المعضلة قائمة، وسط ارتفاع سعر لوح الإسفنج من 8 دولارات في الأيام العادية إلى 25 دولاراً في متاجر عاليه. ثلاثة أضعاف السعر الحقيقي، لسلعةٍ تُعدّ أساسية في فترات النزوح، لم تحرّك وزير الاقتصاد أمين سلام لوضع حدٍّ لتجار الأزمات الذين يتلاعبون بالأسعار، رغم أنّ الصرخة علت أمس ووصلت إلى مسامعه، بينما كانت الوزارة منشغلة برفع الدعم عن ربطة الخبز التي وصل سعرها إلى 77 ألف ليرة، في فترة يتوجب فيها على الدولة دعم مواطنيها لا تركهم عرضة للنهش التجاري، سيّما أنّ أسعار مختلف السلع شهدت ارتفاعاً في مناطق النزوح.
هذا التفلّت، سيضع الهيئة العليا للإغاثة أمام خيار شراء فرش بأسعار مرتفعة، بينما كانت الفرصة متاحة لتأمينها سابقاً. فبحسب معطيات «الأخبار»، كان «هناك اعتماد مصروف لصالح الهيئة للتصرف به وشراء فرش، منذ ما قبل توسع موجة الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة، إلا أن رئيس الهيئة اللواء محمد خير، قرّر عدم التحرّك ولم يتحمل مسؤوليته على هذا المستوى، وهو ما خلق أزمة حقيقية تمثّلت بافتراش النازحين لأراضي المدارس، ومن جهة أخرى خلق ضغطاً أكبر في فترة زمنية قصيرة على مصانع ألواح الفرش التي لن تستطيع في الأيام المقبلة تلبية طلب لجنة الطوارئ لنحو 40 ألف فرشة، في وقت طلبت وحدة العمل الاجتماعي في حزب الله من المصنّعين رقماً مماثلاً».
في الموازاة علمت «الأخبار»، أنّ رئيس لجنة الطوارئ الوزير ناصر ياسين طلب من الجمعيات الدولية التابعة للأمم المتحدة إحصاء ما في مستودعاتها من فرشٍ يمكن توزيعها في اليومين المقبلين.
لكنّ التجربة مع الجمعيات ليست مشجّعة إلى الآن، فهي لم تتحرك كما يجب طيلة عامٍ من عمر الحرب، ربطاً بقرار المانحين الدوليين عدم رصد أموال لإغاثة النازحين الجنوبيين، كنوعٍ من الضغط على المقاومة وبيئتها. وفي هذا السياق أتى غياب الجمعيات عن مراكز الإيواء يوم أمس «طبيعياً» ومتوقّعاً، إذ يفيد أكثر من مسؤولٍ في المدارس التي زارتها «الأخبار» أن حضور الجمعيات الدولية شبه معدوم، ما خلا قلة منها، أحضرت عشرات الفرش. بخلاف جمعيات محلية متواضعة التمويل مثلاً كجمعية «نون التضامن» التي اهتمت بأمور النساء النازحات في مدارس بيصور الرسمية ووفّرت لهن فوطاً صحية ومستلزمات نظافة شخصية. كما اهتمت بتنظيف المراحيض، وتركيب شطافات مياه. لم تقتصر المبادرات المحلية عند هذا الحد، فقد أحضر بعض الأهالي والجمعيات، ملابس وُضعت في قاعات المدارس، وطلب المعنيون بالتنظيم من العائلات النازحة المساعدة في فرز الملابس، بهدف إشعارها بالمشاركة في التنظيم.
اجتماعياً، غاب المرشدون الاجتماعيون التابعون لوزارة الشؤون الاجتماعية. كذلك، أمنياً غاب عناصر قوى الأمن الداخلي الذي كانن من المفترض وفق خطة الطوارئ الحكومية أن يتواجدوا على أبواب المدارس، منعاً لأي اشكالاتٍ قد تحصل بين النازحين أو بينهم وبين المجتمع المضيف، علماً أنّ وزير الداخلية بسام المولوي أطلّ في مؤتمر صحافي تحدّث فيه عن إمكانية تكليف قوى الأمن بمهمة تسلّم وتنظيم مراكز النزوح، فيما أولئك العناصر أنفسهم غابوا عن الطرقات وعن دورهم الأساسي في تنظيم حركة السير حين علقت العائلات لساعات طويلة على أوتوستراد الجنوب. وتحاول الشرطة البلدية في البلدات التي تستضيف نازحين، حراسة المدارس التي تحوّلت إلى مراكز إيواء.
وتبقى المعضلة التي لا بظهر أن حلّها قريب متمثلةً بانقطاع التيار الكهربائي ليلاً عن غالبية المدارس. ففيما قرر بعض مدراء المدارس تشغيل المولدات الخاصة ليلة أمس وأول من أمس، مستخدمين ما لديهم من مخزون من مادة المازوت، يرفع هؤلاء الصوت محذرين من نفاد المازوت. وسط معطيات عن إعطاء الحكومة الأولوية في توزيع المازوت للمستشفيات والمخابز.
في خلاصة يوم النزوح الأول والطويل، تُرك النازحون لمصيرهم، بين دولةٍ عاجزة وجمعيات دولية متواطئة. وحده التضامن الاجتماعي والمبادرات الاهلية كانت كفيلة بتخفيف فاتورة النزوح القاسية.