هل سيتمكّن لبنان من خفض خسائر الحرب المرشّحة للامتداد، بعدما استُدرج إليها بقرار إيراني لجرّ الحزب إلى شباكها؟ أم فات أوان الحدّ من الأضرار الهائلة على البلد بينما خيار الحرب هو الغالب بقرار إسرائيلي بصرف النظرعن موقف إيران؟ وهل طهران مستعدّة لدفع الأثمان السياسية لتراجعها عن مصادرة القرار اللبناني وتعطيل المؤسّسات اللبنانية؟ وإلى أيّ مدى عاد الحزب عن تعطيل انتخاب الرئيس بعد اشتراطه تبوّؤ المركز من شخصية تضمن استمرار سلاحه؟ وهل تفي الالتزامات المعلنة من قبل السلطة الرسمية الضعيفة بمتطلّبات وقف الحرب؟ أم إسرائيل، بتأييد أميركي، ستواصلها لأنّ القرار هو ضرب أذرع إيران، مهما كان التزام لبنان بالقرار 1701؟
للحظات خُيّل لبعض المراقبين أنّ ما صدر عن الاجتماع الثلاثي في دارة رئيس البرلمان نبيه بري شبيه بوقائع حصلت إبّان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. يومها طلب قادة المسلمين وقادة أحزاب الحركة الوطنية بعد اجتماعات في دارة الزعيم الراحل صائب سلام من منظمة التحرير الفلسطينية القبول بانسحاب قوّاتها من لبنان. كانت قوات أرييل شارون وصلت إلى مشارف بيروت فحاصرتها وأخذت تدكّها بالقصف، والمطلوب إنقاذ العاصمة. سطّرت القيادة الفلسطينية رسالة بقيت غير معلنة لأسباب تفاوضية، بالاستعداد لمغادرة البلد… ثمّ حصل ما حصل.
الاجتماع الثّلاثيّ والمقارنة مع 1982
قد لا تكون المقارنة جائزة لاختلاف الظروف واللاعبين، إذ يستحيل خروج حزب لبناني له قاعدة شعبية واسعة من البلد. لكن من أوجه التشابه:
1- أنّ الأمر يتعلّق بعدوان إسرائيلي وحشيّ تفوق جرائمه ضدّ البشر والحجر والاقتصاد، ما حصل قبل 42 سنة.
2- المطلب الإسرائيلي والدولي هو ضمان أمن إسرائيل انطلاقاً من الأراضي اللبنانية بتعطيل سلاح الحزب، ثمّ بتولّي السلطة اللبنانية مسؤوليّته.
3- منع إيران من الإفادة من قوّة الحزب في تعزيز نفوذها الإقليمي وموقعها التفاوضي مع أميركا حول ملفّها النووي. وهذا هدف تتقاطع على تحقيقه مع دول الغرب دول عربية عدّة. في 1982 كان الهدف تشذيب قدرة سوريا على استخدام لبنان.
مع المقارنة بين الاجتماع الثلاثي وبين اجتماع القيادات الإسلامية واليسارية عام 82، أشارت المعطيات إلى استعداد الحزب للتراجع قبل اللقاء بدارة برّي
4- كلّ الخطوات المطلوبة للحلول الدبلوماسية تعطي أولوية لدور حاسم للجيش اللبناني وتعزيزه كي يساهم في أيّ حلول ترافق وقف الحرب.
أوجه الاختلاف
لكن من أوجه الاختلاف الرئيسة مع عام 82، الفراغ في رأس السلطة اللبنانية، بحيث يصعب إشراكها في أيّ مخارج من المخاطر التي تحدق بالبلد. لذلك:
– تقدَّمَ انتخاب رئيس للجمهورية كي تنتظم المؤسّسات الدستورية وتساهم في الحدّ من تفرّد الحزب بالقرار، على الرغم من الشكوك المحيطة في إمكان إنجازه.
– صارت “عقيمةً” الإدارة الأميركية الحالية “الضعيفة أصلاً” وفق قول مصدر دبلوماسي عربي لـ”أساس”. ولا يمكنها الضغط على إسرائيل كما في عام 82. في حينها فرض الرئيس الراحل رونالد ريغان على رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن وقف النار باتصال هاتفي شديد اللهجة. وهذا ما لا يجرؤ عليه جو بايدن مع بنيامين نتنياهو، لأسباب أقلّها ظروف الانتخابات الرئاسية الأميركية.
كيف تعطّلت الحلول الدبلوماسيّة
مع المقارنة بين الاجتماع الثلاثي وبين اجتماع القيادات الإسلامية واليسارية عام 82، أشارت المعطيات إلى استعداد الحزب للتراجع قبل اللقاء بدارة برّي. وحسب ما أعلنه وزير الخارجية عبدالله بوحبيب لـ”سي.إن.إن”، فإنّ الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله أعطى موافقته على وقف النار قبل اغتياله في 27 أيلول. اعتبر بري ذلك خروجاً من الحلقة المفرغة التي كان نصرالله علق داخلها ومعه لبنان. فربطه أيّ وقف لحرب إسناد غزة، التي أطلقها في 8 تشرين الأول 2023، بوقف إسرائيل حربها في القطاع عطّل المبادرات الدولية كافّة. هكذا كانت أفكار الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين والاقتراحات الفرنسية لتحييد جبهة جنوب لبنان تفشل بفعل هذا الشرط. وكان يقابلها قرار إسرائيلي أكثر تشدّداً: حتى لو أوقف الحزب النار فإنّ الجيش الإسرائيلي لن يحجم عن استهدافه. والهدف ضمان أمن الشمال الإسرائيلي بإبعاد الحزب نحو شمال نهر الليطاني.
سبق خارطة الطريق هذه صدور النداء الأميركي الفرنسي الذي وقّعته دول غربية وعربية واستند إليه الاجتماع الثلاثي
يقول مصدر سياسي بارز لـ”أساس” إنّ تمسّك الحزب بربط لبنان بغزة فوّت عليه فرصة عرض قدّمه الأميركيون قبل أشهر: اسحبوا قوّة “الرضوان” من الجنوب، وخذوا سليمان فرنجية رئيساً. هكذا تعطّلت الجهود الدبلوماسية.
غطاء هوكستين وماكغورك لحملة نتنياهو؟
تلاقي هذا الاستنتاج معلومات إعلامية من واشنطن بأنّ هوكستين وعضو مجلس الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك هما اللذان أبلغا بنيامين نتنياهو بأن يمضي في حملته العسكرية. وكان النجاح في عملية تفجير البيجر وأجهزة اللاسلكي طليعتها. ولا بدّ من الإشارة في السياق إلى أنّ ماكغورك هو الذي كان يتولّى الاتصالات الصعبة، غير المباشرة والمباشرة مع إيران. والأخير إضافة إلى هوكستين، الإسرائيلي الجنسية، غير السفير فيليب حبيب اللبناني الأصل الذي تولّى التفاوض عام 82.
لكنّ من السذاجة الاكتفاء بدوافع إسرائيل المتعلّقة بأمنها انطلاقاً من الحدود اللبنانية في فهم الحملة العسكرية على لبنان. فالأمر يتعلّق بتحوّل في استراتيجية مواجهة إيران يقضي بضرب أذرعها بدءاً من أقواها، الحزب، بدلاً من شنّ حرب عليها.
الاجتماع الثلاثي
إحياء المسار الدبلوماسي بدا محفوفاً بعقبات كبرى. فإعادة الأمور إلى الوراء باتت صعبة في ظلّ الاندفاعة العسكرية الإسرائيلية المدمّرة. والمناخ الإقليمي الدولي ليس مؤاتياً. ويسجّل السياسي اللبناني البارز أنّ عواصم العالم التي شهدت تظاهرات عارمة احتجاجاً على حرب الإبادة في غزة لم تشهد مثلها من أجل لبنان.
كيف الخروج من الحلقة المفرغة؟
لاجتماع الأربعاء الماضي بدارة برّي الذي ضمّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي والرئيس السابق للحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط رمزيّته. وهذا ما دفع للمقارنة مع عام 1982. هم يمثّلون الطوائف الإسلامية الثلاث: السنّة والشيعة والدروز. طلبوا وفق نداء تلاه ميقاتي:
– وقفاً فورياً لإطلاق النار.
– الشروع في الخطوات التي أعلنت الحكومة التزامها لتطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 1701.
– إرسال الجيش اللبناني إلى جنوب الليطاني ليقوم بمهامّه كاملة بالتنسيق مع قوات حفظ السلام.
– انتخاب رئيس وفاقي للجمهورية يطمئن الجميع ويبدّد هواجسهم المختلفة لنعيد صياغة أولوياتنا الوطنية في مؤسّساتنا الدستورية.
إحياء المسار الدبلوماسي بدا محفوفاً بعقبات كبرى. فإعادة الأمور إلى الوراء باتت صعبة في ظلّ الاندفاعة العسكرية الإسرائيلية المدمّرة
النّداء الدّوليّ العربيّ استند لتفويض الحزب لبرّي
سبق خارطة الطريق هذه صدور النداء الأميركي الفرنسي الذي وقّعته دول غربية وعربية واستند إليه الاجتماع الثلاثي. بل إنّ الأخير استنسخ مضمون النداء الدولي الذي ارتكز على إبلاغ بري هوكستين وسائر القوى الدولية المتّصلة به باستعداد الحزب لقبول وقف النار. وأكّد مصدر متّصل بالحزب لـ”أساس” أنّ قيادته أبلغت وسطاء غربيين على صلة بها قرارها: “نحن فوّضنا الرئيس بري بالكامل بأن يطرح ما يطرح”… وبناء عليه طُلب إلى ميقاتي الانتقال إلى نيويورك وإلى نتنياهو كذلك كي يوقّعا على مضمون النداء الدولي العربي أسوة بالدول الموقّعة. لكنّ نتنياهو حضر وكان اتّخذ قرار اغتيال نصرالله، وتراجع عن التوقيع وحصل على هديّة بقيمة 8.7 مليارات دولار من واشنطن، فعلّق ميقاتي توقيعه عليه بعد التشاور مع برّي. ثمّ جرت محاولات دولية مع ميقاتي كي يوقّع عليه، لكنّ استشارته القيادات اللبنانية أفضت إلى الجواب الآتي: نحن لا نتهرّب من ذلك وسبق أن وافقنا على مضمونه. لكن ما دام نتنياهو رفضه فالأفضل انتظار موقفه.
انطوى النداء الثلاثي على جملة نتائج:
– تغطية إسلامية لتراجع الحزب عن ربط وقف النار في لبنان بوقفه في غزة. ولو متأخّراً، وتحت ضغط مخاطر الحملة العسكرية الإسرائيلية. وهناك خشية من أن يتعدّى الهدف الإسرائيلي مطلب انسحاب الحزب إلى شمال الليطاني، بعد طلبه من السكّان المغادرة إلى شمال نهر الأوّلي. فهل المقصود أن تصبح المنطقة العازلة بين الليطاني والأوّلي؟
– الخطوة الأولى هي انتخاب رئيس الجمهورية حيث تراجع بري عن ربط الأمر بوقف النار. فإعادة تشكيل السلطة هي التي يمكن أن تقنع المجتمع الدولي بالجدّية اللبنانية في التزام البنود الأخرى (تطبيق القرارات الدولية وإرسال الجيش..)، وتشجّع الدول النافذة على المساعدة في وقف الحرب. وهناك معطيات عن أنّ دولاً غربية توصّلت إلى اسم الرئيس العتيد وتحرص على عدم البوح به.
أكّد مصدر متّصل بالحزب لـ”أساس” أنّ قيادته أبلغت وسطاء غربيين: “نحن فوّضنا الرئيس بري بالكامل بأن يطرح ما يطرح”
– اقتصار الاجتماع على القيادات الإسلامية في الشكل أثار انتقادات القيادات المسيحية، وحتى تحفّظ قيادات إسلامية. وتردّد أنّ ميقاتي سعى قبل انعقاده لنيل تغطية رؤساء الحكومات السابقين بعقد لقاء مع الرئيسين فؤاد السنيورة وتمام سلام، لكن لم يحصل. وكان يفضَّل أن يُضمّ إلى الثلاثي شخصيات مسيحية مثل الرئيسين السابقين أمين الجميّل وميشال سليمان. الحجّة أنّ إشراك قادة الأحزاب المسيحية الرئيسة يمكن أن يثير حفيظة بعضها على حضور البعض الآخر وسط تناقضاتها. واستعيض عنهم بلقاء ميقاتي مع البطريرك صفير وبتواصل “الحزب الاشتراكي” مع رئيسَي حزبَي القوات اللبنانية والكتائب، سمير جعجع وسامي الجميّل.
– نداء القوى السياسية يقفز فوق حقائق أهمّها أنّ بري شريك في تأخير انتخاب الرئيس منذ سنتين. فيما القوى الأخرى، أي المعارضة المسيحية وغير المسيحية، الموجّه إليها، تلحّ على إنهاء الفراغ الرئاسي.
– تساءلت أكثر من جهة محلّية وخارجية عن سبب لجوء الحزب إلى تفويض برّي بدلاً من أن يعلن مباشرة قبوله الفصل مع غزة، وانتخاب رئيس “وفاقي لا يشكّل تحدّياً لأحد”. فأوساط المعارضة تطرح علامة استفهام حول عدم وضوح الحزب استناداً إلى تجارب سابقة.
– لدى المعارضة والقوى المؤيّدة لنداء الثلاثي الإسلامي شكوك حول ما إذا باتت واشنطن مقتنعة بإنهاء الفراغ الرئاسي، قبل تحديد سقف المرحلة المقبلة: الاكتفاء بتطبيق القرار 1701، أم الإفادة من الحملة العسكرية الإسرائيلية لتطبيق القرار 1559 بوضع سلاح الحزب بتصرّف الشرعية اللبنانية.
وهذا ما دفع الدائرة الإعلامية في “القوات” إلى الإعلان أنه “ما أن أبدت “القوات” والمعارضة كل إيجابية (حيال نداء الاجتماع الثلاثي) حتى راح الفريق الأخر يتراجع شيئاً فشيئاً يربط الانتخابات الرئاسية بشرط تأمين توافق 86 نائباً، الأمر المستحيل، وصولاً إلى اعتبار النائب السابق سليمان فرنجية توافقياً”…ووصفت ذلك بـ”مسرحيات الأيام الماضية”.