تتسارع وتيرة التطوّرات العسكرية، ويرتفع منسوب التوتّر الإقليمي، كما المحلّي. ويحجب الدخان المتصاعد من الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية الكلام عن مشاورات دبلوماسية قد تخفّف من حدّة العدوان الإٍسرائيلي، وتفتح نافذة الرئاسة المقفلة.
لا وقف لإطلاق النار في المدى المنظور. لا بل تشي الترجيحات بأنّ الحرب مرشّحة للتوسّع جغرافياً وزمنياً. ويبدو أنّ بركان الدم الذي يرمي حممه بوجه اللبنانيين، قد يزداد حماوة وقساوة ليرفع من منسوب الخطورة على مستقبل البلد، مع أنّ مقاتلي الحزب يقودون مواجهات شرسة لصدّ الإسرائيليين في محاولاتهم “المتردّدة” لخوض غزو برّي في جنوب لبنان.
أمّا على المستوى الإقليمي، فلا تزال سائدةً حالُ الترقّب للردّ الإسرائيلي على الردّ الإيراني، فيتمّ ترحيل المواعيد الافتراضية للضربة من يوم لآخر، وهو ما يعزّز احتمال دخول واشنطن على خطّ “دوزنة” هذا الردّ منعاً لسيناريوهات قيام حرب شاملة تدخل المنطقة في فوضى، لربّما تراها الإدارة الأميركية غير بنّاءة، في هذا التوقيت بالذات الفاصل بين أفول إدارة وولادة إدارة جديدة للبيت الأبيض.
ولا تزال السعودية منكفئة عن الملف اللبناني رغم محاولات باريس لإقناعها بالانخراط في “اليوم التالي” كشريكة في إعادة الإعمار وفي القرار السياسي.
لا وقف لإطلاق النار في المدى المنظور. لا بل تشي الترجيحات بأنّ الحرب مرشّحة للتوسّع جغرافياً وزمنياً
نعيم قاسم يكمل ربط لبنان بغزّة؟
ميدانياً، أعلن الجيش الإسرائيلي، للمرّة الثالثة على التوالي، بدء توغّله البرّي في الجنوب اللبناني عبر الفرقة 146، في سياق ما اعتبره “أنشطة عمليّاتية محدودة ومحلّية ومستهدفة”، وسط مزيد من الإنذارات التي تحذّر الجنوبيين من العودة إلى منازلهم. في المقابل حسم نائب الأمين العامّ للحزب الشيخ نعيم قاسم في إطلالته بذكرى انطلاق حرب الإسناد، وضع مقاتلي “الحزب” في الجنوب، إذ قال إنّ “مقاومينا على الجبهة متماسكون تماماً كما الإدارة والعمليات ازدادت والتأثير على إسرائيل ازداد”. وهذا ما يشير إلى أنّ وتيرة المواجهات إلى مزيد من التصعيد بعدما أطاح قاسم التكهّنات والتقديرات حول انهيار هيكلية “الحزب” بفعل اغتيال عدد كبير من القيادات وفي طليعتها الأمين العام. وبالتالي فإنّ منطق الاستسلام غير وارد في أجندة “الحزب”، ويُترك الحسم للميدان.
هكذا بات مسلّماً به أنّ الأولوية هي “لوقف إطلاق النار، وبعده لكلّ حادث حديث”، فيما “شرّع” قاسم حراك رئيس مجلس النواب نبيه بري، ليثبت امتلاكه تفويضاً رسمياً، ولو أنّه رحّل النقاش “في التفاصيل إلى ما بعد وقف إطلاق النار”، إذ قال: “لا تستعجلوا على بعض التفاصيل، وقبل وقف إطلاق النار أيّ نقاش آخر لا محلّ له بالنسبة إلينا ومستعدّون لمناقشة كلّ التفاصيل بعد وقف النار”.
لكنّ قاسم، وفق أوساط دبلوماسية، لم يحدّد جغرافية وقف إطلاق النار، بمعنى عدم حصره بلبنان ليفصل ملفّ الجنوب عن ملف غزة، وبالتالي أُعيد إحياء الربط بين الجبهتين، ليعزّز بذلك ما نُقل عن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي خلال زيارته بيروت عن دفعه باتجاه توحيد المسارين من جديد.
على المستوى الإقليمي، فلا تزال سائدةً حالُ الترقّب للردّ الإسرائيلي على الردّ الإيراني، فيتمّ ترحيل المواعيد الافتراضية للضربة من يوم لآخر
ناصيف حتّي يتقدّم؟
بناء عليه، يمكن الاستنتاج أنّ كلّ الحراك الحاصل في الملفّ الرئاسي لا يعدو كونه أوّلاً محاولة لفضح الأوراق المستورة، بمعنى وضع مواقف القوى السياسية تحت الاختبار الجدّي، وكونه ثانياً مسعى لاستدراج العروض الدولية بعد وضع “كارت” الرئاسة على طاولة التفاوض والأخذ والردّ.
في هذا السياق يمكن تسجيل المعطيات الآتية:
1- تبدو باريس هي الأكثر حماسة لإنجاز الاستحقاق الرئاسي على قاعدة أنّ الحزب مأزوم. وهو ما قد يسمح بتعطيل لغم رفضه لخيار اسم توافقي تقبل به بقيّة القوى السياسية. وبينما كان وزير الخارجية الفرنسي جان- نويل بارو يستطلع خلال زيارته الأخيرة بعض الآراء في ترشيح قائد الجيش جوزف عون، هناك من التقط إشارات من مسؤولين فرنسيين آخرين إلى تفضيلهم ترشيح الوزير الأسبق ناصيف حتّي (يُقال إنّ الموفد الفرنسي جان- إيف لودريان هو الأكثر حماسة لترشيح حتّي).
تجزم مصادر دبلوماسية مطّلعة على موقف باريس أنّ إدارة إيمانويل ماكرون متمسّكة بمبادرتها تجاه لبنان، وذلك على قاعدة البيان المشترك الأميركي – الفرنسي، الذي لا يزال ركيزة الاتصالات الدبلوماسية التي يقودها وزير الخارجية الفرنسي خلال جولته في المنطقة (من المستبعد أن يزور بيروت ضمن هذه الجولة ما دامت مشاورات وقف إطلاق النار لم تحقّق تقدّماً ملموساً).
2- لم يُرصد إلى الآن أيّ موقف أميركي واضح إزاء الحراك الرئاسي، مع العلم أنّ المطّلعين يؤكّدون أنّ واشنطن ليست بوارد تبنّي أيّ مرشّح لأنّها متيقّنة أنّ أيّ رئيس جديد لن يكنّ لها الخصومة، وستتعامل معه، لكن وفقاً لسلوكه. لهذا لم يعلن المسؤولون الأميركيون أيّ موقف سلبي من ترشيح رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية. بالتوازي، يشير المطّلعون إلى أنّ واشنطن ليست بوارد دفع أيّ ثمن مقابل ترشيح رئاسي يلائم سياستها، خصوصاً قبل انتهاء الأعمال القتالية.
ميدانياً، أعلن الجيش الإسرائيلي، للمرّة الثالثة على التوالي، بدء توغّله البرّي في الجنوب اللبناني عبر الفرقة 146، في سياق ما اعتبره “أنشطة عمليّاتية محدودة ومحلّية ومستهدفة”
3- لا تزال السعودية منكفئة عن الملف اللبناني رغم محاولات باريس لإقناعها بالانخراط في “اليوم التالي” كشريكة في إعادة الإعمار وفي القرار السياسي.
4- لا يزال الحراك الرئاسي ضمن إطار المتاهة الداخلية بعدما أقفل الكلام عن “ربط الساحتين” أبواب الرئاسة. وذلك تحت عنوان جسّ النبض، والنكايات، والبحث عن تخريجات، وإحراجات من باب الإخراج. والأرجح أنّ مبادرة فرنجية إلى القول صراحة إنّ قائد الجيش هو أفضل الموجودين من المرشّحين، لا يخرج عن سياق زكزكة رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الذي يخوض معركة إخراج العماد عون من السباق الرئاسي، وذلك ردّاً على المواجهة الشرسة التي قادها رئيس “التيار” لتهشيم ترشيح رئيس “المردة”.
5- يدرك فرنجية أنّ التطوّرات الدراماتيكة، وتحديداً اغتيال نصرلله، قضمت من حظوظه الرئاسية، التي كانت قد تقلّصت بالأساس بفعل الممانعة المسيحية والسعودية بشكل خاص. لكنّ الرجل لم يرفع راية الاستسلام، ولا يبدو أنّه بوارد رفعها في القريب العاجل، خصوصاً أنّه متأكّد أن لا رئاسة في المدى المنظور، لا بل يسود الاعتقاد أنّه مقتنع أنّ الحاجز المقاومتيّ الدفاعي الذي صنعه “الحزب” على الحدود الجنوبية قد يعيد خلط الأوراق العسكرية، ويُخرج هذا المحور بخسائر أقلّ، بالمعنى السياسي، وقد يعيد تعويم ترشيحه. لهذا يتحصّن بطول البال.