ستّون يوماً ستحدّد وجه لبنان لعشرين سنة مقبلة. وما سيحدث (فيها) خلالها سيكون أكثر تعقيداً ومشقّة من أن تحسم أمره بنود الاتّفاق الذي أنجزه المفاوض الأميركي، مهما بلغ تفصيله.
في نزال الستّين يوماً، سيكون على “الحزب” أن يخوض المناورة الأصعب ليتحقّق له سحب سلاحه من جنوب الليطاني مع الإبقاء عليه جزءاً من المعادلة الداخلية، وربّما الإقليمية. والتعويل هنا على اقتناع إسرائيل والولايات المتحدة بأنّه لا يضير بقاء السلاح ما دام سيخرج من معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي، وإذّاك يمكن للحزب أن يستمر جزءاً من معادلة موازين القوى الداخلية.
ليست حدود هذا النزال محدّدة مسبقاً. يبني “الحزب” على تجربة 2006 التي أثبتت أنّ ما يُكتب على الورق يمكن أن تعدّله موازين التنفيذ على الأرض. فواقع الأمر أنّه نجح في إفراغ القرار الدولي 1701 من مضمونه، وأبقى على وجوده العسكري جنوب الليطاني. غير أنّ المختلف هذه المرّة أنّ تنفيذ القرار الدولي انتقل عملياً من عهدة اليونيفيل، غير ذات الأنياب، إلى عهدة الولايات المتحدة مباشرة، من خلال رئاستها للجنة المراقبة الخماسية.
إذا كان “الحزب” قادراً على طرد اليونيفيل من القرى تحت ستار “الأهالي”، فإنّه لا يستطيع فعل ذلك مع ضابط أميركي. أضف إلى ذلك الضوء الأخضر لإسرائيل للتحرّك متى رأت أنّ تنفيذ الاتفاق لا يسير على النحو المرسوم له. يعني ذلك أنّ مسار التنفيذ خلال الأيام الستّين المقبلة سيكون عسيراً وشائكاً ويخبّئ الكثير من المناورات والألغام.
حدّان متطرّفان
في نزال التنفيذ سينتهي الأمر بحصيلة ما بين حدّين متطرّفين:
– أقصاهما أنّ يُفكَّك الوجود العسكري لـ”الحزب” تماماً جنوب الليطاني، وأن تُفرض الرقابة الدولية (الأميركية) على المعابر البرّية والجوّية والبحرية لمنع إعادة التسليح، وأن يخرج السلاح من الحياة السياسية اللبنانية.
الوصول إلى الحدّ الأقصى لا يكفيه “قرار كبير” من الأميركيين، بل يحتاج إلى إمكانات ومعطيات قد لا تكون متوافرة بعد وقف إطلاق النار
– أدناهما أن يُفكَّك وجوده في شريط القرى الحدودية الذي دمّرته إسرائيل، وتفكَّك بعض المواقع والبنى التحتية جنوب الليطاني، وتظلّ البنية العسكرية لـ”الحزب” قائمة كما هي على بقيّة الجغرافيا اللبنانية، ولن يعجز “الحزب” عن إعادة وصل خطوط الإمداد عبر الأراضي السورية.
الوصول إلى الحدّ الأقصى لا يكفيه “قرار كبير” من الأميركيين، بل يحتاج إلى إمكانات ومعطيات قد لا تكون متوافرة بعد وقف إطلاق النار. فالضبط التامّ للحدود مع سوريا مهمّة أقرب إلى المستحيل في ظلّ التغلغل الإيراني في المفاصل الأمنيّة والعسكرية في الداخل السوري. ولا يكفي أن يقرّر الحكم في دمشق التعاون في هذه المهمّة. فنظام الأسد نفسه يواجه صعوبة كبيرة في ضبط حركة إيران وميليشياتها على أرضه.
حقيقة الصّفقة الأميركيّة – الإيرانيّة
ربّما يصحّ وصف اتّفاق وقف إطلاق النار بأنّه، في المقام الأوّل، صفقة أميركية – إيرانية لإخراج سلاح “الحزب” من الصراع مع إسرائيل، مقابل السماح ببقاء “الحزب” وترميم وجوده السياسي والاجتماعي، مع وضع سلاحه وبنيته العسكرية تحت الرقابة الدولية (الأميركية)، على نحوٍ يحاكي خضوع البرنامج النووي الإيراني لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرّية.
سيتوقّف الكثير بعد ذلك على التطوّرات الإقليمية، وعلى مقاربة “الحزب” لوجوده ودوره في النظام اللبناني: هل يتّجه إلى مصالحة الداخل، ضمن سياق إقليمي يتّجه إلى الانفتاح والتفاهم بين السعودية وإيران؟ أم يتّجه إلى استعادة تجربة 2006، حين أوغل سلاح “الحزب” في الهيمنة على الدولة بعد الحرب، وتوسّع للعب أدوار إقليمية تهدّد أمن الدول العربية وشعوبها في سوريا واليمن والعراق؟
اليوم التّالي للحزب
قد لا يكون “الحزب” نفسه جاهزاً للإجابة، لكنّ ثمّة ما هو واضح ومؤكّد في تصوّره لليوم التالي للحرب:
1-ليس “الحزب” مستعدّاً لتصوّر نفسه ودوره من دون “ثيمة” السلاح كعلّة لوجوده العقائدي والسياسي. إنّه السلاح الذي يربطه بالوليّ الفقيه المنوط به التكليف والأمر والتوجيه. ولذلك ثلاثية “الشعب، الجيش، المقاومة” ستبقى عنوان وجوده السياسي، حتى لو اختفت إسرائيل من الوجود.
ربّما يصحّ وصف اتّفاق وقف إطلاق النار بأنّه، في المقام الأوّل، صفقة أميركية – إيرانية لإخراج سلاح “الحزب” من الصراع مع إسرائيل
ما قاله مستشار المرشد الإيراني علي لاريجاني من أنّ الحزب “لم يستخدم أسلحته الاستراتيجية بعد”، له تفسير واحد: أنّ الوجود “المفترض” لهذه الأسلحة سيبقى جزءاً من المعادلة الداخلية، وربّما الإقليمية.
2- كان الحزب “متواضعاً” في تمثيله السياسي في الحكومة ومجلس النواب قياساً بحجم تمثيله الشعبي، لأنّه لم يكن محتاجاً إلى كثير من الوزراء والنواب ما دام قادراً على فرض إرادته السياسية عبر السلاح، على نحو ما فعله حين حاصر السراي الحكومي باعتصام مسلّح بين أواخر 2006 ومنتصف 2008، أو حين اجتاح بيروت في 7 أيار 2008، أو حين أسقط حكومة “الوحدة الوطنية” التي تشكّلت بعد انتخابات 2009 وقلب نتائج الاستشارات الحكومية باستعراض القمصان السود، أو حين عطّل الانتخابات الرئاسية ثلاث مرّات، آخرها الفراغ المستمرّ منذ عامين.
غير أنّ تجربة الحرب الراهنة أعطته درساً بأنّ العطايا السياسية لحلفاء كان يحسبهم تحت جناح سلاحه، مثل “التيار العوني”، لم تسعفه في ساعة العسرة. ولذلك سيلتفت، بلا أدنى شكّ، إلى توسيع تمثيله المباشر في الدولة، “تحت سقف الطائف”، كما قال أمينه العامّ الشيخ نعيم قاسم.
الحرب
سيكون أوّل المؤشّرات إلى توجّهات “الحزب” مقاربته لانتخاب رئيس الجمهورية ضمن مهلة الستّين يوماً. وقد وعد قاسم أن تكون مشاركة “الحزب” فعّالة ووفق الأطر الدستورية، أي أنّه لن يعطّل النصاب ولن يفرض مرشّحه. لكنّ المفصل الأهمّ سيكون في الانتخابات النيابية المقبلة التي سيخوضها “الحزب” بقواعد مختلفة في تشكيل اللوائح والتحالفات.
3- ستكون أولويّة “الحزب” بعد الحرب الإمساك بالساحة الشيعية، وهو ما يتطلّب تظهير صورة للنصر تحجب التنازلات القياسية التي قدّمها في اتفاق وقف إطلاق النار، وتلك مهمّة لن تكون يسيرة.
في 2006 تمثّلت صورة النصر في ثلاثة مشاهد: استمرار إطلاق الصواريخ حتى الساعة الأخيرة، ومشهد العودة الفورية إلى الضاحية والقرى الجنوبية، ومشهد احتفال “النصر الإلهيّ” الذي أطلق فيه الأمين العامّ الراحل للحزب مقولة “أشرف الناس”.
ليست حدود هذا النزال محدّدة مسبقاً. يبني “الحزب” على تجربة 2006 التي أثبتت أنّ ما يُكتب على الورق يمكن أن تعدّله موازين التنفيذ على الأرض
هذه المرّة، سيكون مشهد العودة أكثر تعقيداً، لأنّ هناك مرحلة الستّين يوماً التي سيُفكّك فيها الوجود العسكري للحزب جنوب الليطاني. ولذلك هناك صورة تزاحم صورة العودة هي صورة لجنة المراقبة الخماسية برئاسة جنرال أميركي، تجوب الجنوب وتتحقّق من انسحاب “الحزب”. وأمّا احتفال النصر فسيكون فيه نصرالله محمولاً على نعش التشييع.
4- سيكون ملفّ إعادة الإعمار الأكثر دقّة وضغطاً على “الحزب”. وقد يكون هو العلّة الحاكمة للانفتاح على الأطياف السياسية وإجراء التسويات، لأنّ الإعمار يتطلّب شروطاً دولية وإقليمية مختلفة عمّا جرى في 2006، حين هيمن “الحزب” على أموال المساعدات وأدار ملفّ الإعمار وحده. هذه المرّة ستكون للمجتمع الدولي شروطه القاسية، مالياً وسياسياً وأمنيّاً، لإعادة الإعمار.
فرصة جديدة
أسوأ ما ابتُلي به لبنان في العقدين الماضيين تحوّله إلى دولة مهملة يداريها العرب بعدم الاكتراث إلّا بالشرّ الذي يأتي منها، إمّا على شكل قتال في الساحات المشتعلة، أو تدريب وتسليح للميليشيات التي تهدّد أمن دولهم، أو على شكل أبواق تحريضية، أو على شكل شحنات من الكبتاغون المخبّأ في أقفاص الفاكهة.
ثمّة فرصة لأن ينخرط “الحزب” في مسار وطني لإعادة تعريف ما يريده لبنان من العرب والعالم، وفهم ما يريده العرب والعالم منه، وأوّل إشارة في هذا الاتّجاه أن يقول في اليوم التالي للحرب إنّه مستعدّ لبحث استراتيجية دفاعية تريح بيئته وتريح اللبنانيين جميعاً.